بقلم : أحمد الصاوي
هذا كلام قديم فى سياق يتجدد، لا يتغير بتغير الأنظمة، ولا برأس الدولة، لأن الأزمة أعمق من رأس دولة إن كان مدنيا أو عسكريا أو إخوانيا أو دولتيا، لأنها فى العقول المحتقنة بالطائفية والقبلية، والمجبولة على التصنيف، والراضية بالعقاب الجماعى كوسيلة لمواجهة الأخطاء الفردية، فى غياب لدولة قانون هدمتها من زمن الجلسات العرفية والقرارات العرفية التى تتم تحت رعاية ممثلى دولة القانون، لا فرق بين ما جرى فى الدقهلية أو العامرية أو سمالوط أو دهشور أو كفر درويش.
يكفى أن تكون مسيحيا فى مصر حتى تتعلم أنك لا تملك رفاهية الخطأ، وإذا ساقك قدرك إلى الخطأ لا تملك حق أن تعاقب وحدك، وأن تحمل وزرك على كتفيك وحدك دون أن تشاركك أسرتك وطائفتك والعابرون بالمصادفة من طريقك فى سداد فاتورة الخطأ.
يكفى أن تكون مسيحيا غير مقيم فى مصر، لكن أسرتك ما زالت تعيش فى كفر درويش ببنى سويف، فتضع على صفحتك على «فيسبوك» ما يعتبره المسلمون فى قريتك إساءة كبيرة، فتدفع أسرتك وأقاربك وبنى طائفتك الثمن غاليا، بتهديدات وحرق بيوت وأحكام عرفية بالتهجير تتم تحت رعاية السلطة وبإشرافها، فى دولة يقولون إن بها قانونا ومؤسسات، ويعاقبون أناسا آخرين بتهمة محاولة هدم الدولة بينما الهدم يحدث من داخلها، وفى ظل قانون يعتبر العقوبة شخصية، وشريعة تقول: «لا تزر وازرة وزر أخرى».
يكفى أن تكون مسيحيا فى مصر، لتكون عيناك فى منتصف رأسك، لا تزيغ يمينا أو يسارا حتى لا تجرح أحدا قد يتأذى إذا نظر إليه «نصرانى»، وأن تكون أعصابك فى ثلاجة، فليس من حقك أن تتشاجر فى أوتوبيس مع شخص لا تعرف اسمه ولا هويته ولا دينه ومذهبه داس على حذائك أو دفعك فى زحام، ليس من حقك أن تقود سيارتك وتسب ذلك الذى كاد يصطدم بك مثلك مثل أى مواطن مصرى «طبيعى وصالح».
يكفى أن تكون مسيحيا فى مصر، فلا تعترض على بائع الخضار فى السوق، حتى لو باعك ما لديه بضعف الثمن، الاعتراض سيتطلب شجارا وسبابا، وربما تحدث إصابات ووقتها لن تكون القضية أن مواطنا تشاجر مع مواطن، وهناك جهات مسؤوليتها أن تفصل بين الاثنين بالقانون، ربما تصبح معركة بين مسلمين ومسيحيين، وقد تدفع ثمن تهورك أنت وأسرتك وكل من يدينون بملّتك، فيحترق منزلك أو يحترق منزل جارك الذى لا تشاجر ولا كان حاضرا، ولا يعرف شيئا عن أصل مشاجرتك، لكنه فقط مسيحى مثلك.
يكفى أن تكون بقالا فى الدقهلية، تتشاجر مع جارك على زجاجة مياه غازية، وينتهى الشجار بضرب أفضى إلى موت، أو مكوجيا فى دهشور تتشاجر على قميص، أو شابا مراهقا فى أسيوط تحرش بفتاة، حتى تجلب على أهلك وكل المسيحيين فى قريتك اللعنة، أنت المتهم وأنت القاتل وأنت المخطئ، لكن خطأك لا تدفع ثمنه وحدك، لأنك مسيحى لا بد أن يعاقب أهلك وجيرانك وكل من يدين بدينك فى منطقتك.
الدولة غائبة، وتتعمد تغييب القانون، كانت غائبة قبل الثورة، وغابت فى المرحلة الانتقالية، وغابت فى عهد الرئيس المدنى المنتخب، واستمر غيابها بعد الثلاثين من يونيو التى قيل إنها جاءت لتوقف التمييز بين المواطنين، وتحكم القانون حتى لا يذبح المواطنون ويهجروا، فإذا بسجونها تنفتح لتبتلع من رفع السلاح ومن رفع الهتاف على السواء، لكنها ما زالت تحنو على اللجان العرفية وتشرعن ممارساتهم.
الحقيقة التى تتجاهلها أنك تعيش فى مجتمع معبأ بالاحتقان والتمييز، لا يجد حرجا فى أن يقتل على الهوية أو يشجع القتل على الهوية، يفرح بعضه فى مقتل ضباط أو قضاة لمجرد أنهم ضباط وقضاة، ويؤيد بعضه ذبح الإخوان لمجرد أنهم إخوان دون اكتراث للسؤال عما فعلوا، ولا يجدون لديهم حرجا من ممارسة العقاب الجماعى ضد الآخرين لأنهم آخرون وليس لأنهم كلهم مخطئون.
لكن وضع الأقباط تحديدا ليس عابرا أو مرتبطا بظروف سياسية ونزاع على السلطة، هو وضع يكاد يكون هذا نمطه الدائم، حدث فى أزمنة «الاستقرار، والفوضى، والحريات، وتكميم الأفواه، والثورة، والدستور، والإعلان الدستورى، وخمسة حكام، ووزراء داخلية متعددين».
هذا المجتمع لم يكفل حتى الآن للمسيحى حق أن يخطئ ويدان بالقانون ويعاقب على الخطأ وحده بعدل، وكما ترى فهذه أول درجة فى سلم حقوق مواطن.. لكنها درجة مكسورة، ولا أحد يكترث لإصلاحها.