تقرير أعَدَّته / نانا جاورجيوس
ضمن فعاليات ملتقى القاهرة السادس للرواية العربية، جاءت ندوة شهادات وتجارب روائية، و التي أدارتها الروائية المصرية الكبيرة إقبال بركة، وبحضور سبعة أدباء من مختلف الدول من مصر و الجزائر والمغرب ولبنان و السعودية. أستعرض خلالها الروائي الجزائري واسيني الأعرج تجربته الحياتية عن مرويته التي صدرت مؤخراً« سيرة المنتهى، عِشتُها كما إشتهتني» والتي كتبها بعيداً عن المثاليات و روح النرجسية والبطولة التي يتبعها عادة كُتاب السيرة العرب. فكما قال أنه لم يقدمها كعِبرة للأخرين لأن الحياة إستحقاق ويجب أن تُعاش حتى ولو في ظل مجتمع يمارس القهر والديكتاتورية ويمتهن الإنسان بإمتياز.
قدم سيرته الذاتية «بأسلوب أدبي تصوفي» من خلال رحلة معراجية للعالم الغيبي. وكما ذكر أنها مستوحاة من التراث الديني كنص الكوميديا الإلهية لدانتي وكمعراج إبن عربي و معراج أبي العلاء المعري في ديوانه رسالة الغفران.
قال واسيني خلال الندوة: إنطلقتُ في كتابتها من فكرة كيف تكتب سيرة ذاتية في مجتمعات عربية لا تعترف بفردية الإنسان؟ فمفهوم السيرة الذاتية في تعريفها الأكاديمي كما يحددها واحد من أهم المختصين في السيرة الذاتية وهو الفرنسي الأكاديمي« فيليب لوجون» حيث يقول: ( أن السيرة هي نص إسترجاعي يُبنى على الحقيقة الموضوعية بمعنى أن الكاتب سيتحدث عن قضايا عاشها) و هذه الجملة أثارت لديه كثيراً من النقاش. فلوجون يتحدث عن مجتمع غربي العلاقات فيه واضحة تماماً وحياة الفرد شبه مقدسة ليقول ما يشاء،وبالتالي عندما أقول أن النص السيَّري هو نص إسترجاعي لوقائع عاشها الكاتب فأنا مرجعي الأساسي بمنطق «فيليب لوجون» هو هذا المجتمع. أما في مجتمعاتنا العربية هناك جزء من الحياة الفردية للشخص هي حياة داخلية « حياة صامتة» ناخد المرأة مثلاً وحتى الرجل ولكن المفارقة كبيرة جداً بينهما وتظهر بشكل واضح عند المرأة. وهو أن الجزء المهم في حياة المرأة هو« جزء صامت»، 90% من حياة المرأة في المجتمع العربي هي «حياة صامتة». فإذا قلتُ عندما أكتب السيرة وهي الحياة التي عاشها الكاتب بالمعنى الموضوعي ومارسها، إذن أنا سألغي 90% من الحياة الصامتة عند الإنسان العربي، ولما أقول الحياة الصامتة على الصعيد الفردي وحتى على الصعيد الثقافي لأن لدينا مكونات ثقافية معقدة يدخل فيها الديني والحضاري والفكري والفردي والممارسي اليومي إلى آخره. ومن هذا قلتُ وأنا اكتب هذه السيرة أني ساقف على الطرف النقيض من هذه القضية.
النقطة الثانية وهي كيف سأكتب سيرة ذاتية وأبطالي الأساسيين الذين صنعوني و صنعوا ذاكرتي وهم الجد الأول الأندلسي وهو ليس شخصية ولكنه عبارة عن ميراث ثقافي ورثته عن الجدة ومحزن في داخلي وصار جزء من ذاكرتي الشخصية. الشخصية الثانية: هي الجدة التي بنيتُ جزءاً كبيراً من ثقافتي الروحية الداخلية التاريخية الشعبية هي عن طريق هذه الجدة. الشخصية الثالثة: هي الوالدة . والشخصية الرابعة: هي شخصية أول حب والذي إنتهى بشكل تراجيدي، عشته وأثَّر فيَّ وكوَّن شخصيتي بشكل أساسي . والشخصية الخامسة: هي شخصية إعتبارية و روحية، هي شخصية«سيرفانتيس» الذي أثر فيّ بشكل عميق فالمسافة بيني وبينه خمسة قرون ولكنه جدي الثقافي بالمعنى الميراثي، فهو جزء من ثقافتي وهنا كذلك يصطدم هذا المفهوم مع مفهوم فيليب لوجون الذي يفترض علىَّ أن أكون عرفت هذا الشخص وعاشرته حتى أتحدث عنه، إنما أنا عندي معاشرته أكثر من كوني أعرفه لأنه شخص حبيته وإستفدت منه وأشعر أنه في داخلي وبالتلي هو يدخل كعنصر تكويني في عملية السيرة.فإذن في البداية مسحت تعريف فيليب لوجون ودخلت في عالم هل هو سيَّري هل هو روائي… ألخ .
وبدأت أكتب هذه السيرة لكن المشكل الذي طُرح علىّ هو كيف ألتقي بهؤلاء الأموات حتى أحاورهم؟! هم ساعدوني في الحياة ولكن عندي أسئلة وكيف أطرحها عليهم وأتجاوب معهم كيف أدخل معهم في نقاشات… ألخ؟ وهذا مستحيل لأن هؤلاء الخمسة لم يعودوا موجودين اليوم. فبدأت أفكر ماهي الواسطة الفنية التي تسمح لي أني أعبر كل هذه المسافات وأصعد عند هؤلاء؟ لا أعرف كيف جاءت الفكرة وكنت أقرأ معراج إبن عربي وهو يتحدث عن رحلته المعراجية في شكل حلم أو رؤيا إلى العالم الأخر وتحدث عن أشياء خطيرة، فقلت كيف لهذا الرجل لم يقتل لأنه بمنطق اليوم كان يجب أن يُقتل، هذا الرجل تخطى سدة المنتهى إلى حالة العمى حيث الضوء حتى يصل إلى العرش، وعندما يصل إلى الكرسي أي المكان الذي يجلس فيه الله، يقول بدأت المعميات حيث ما لايرى،ولكنه تخطى أكثر مما ذهب إليه النبي، وهذا في الثقافة العربية الإسلامية صعب تمرّ لأنه في قدرة روحية سمحت له بالتخطي. وهذا بدأ يعطيني فكرة وبدأت أفكر لا شعوريا كيف ممكن لأن مفهوم المعراج هو مفهوم مقبول ثقافياً، فبالعقل فهو غير مقبول أن ينتقل الإنسان من مكان لمكان، لكن في البُعد الثقافي، في البُعد الحضاري، في البُعد التكويني والديني والروحي حتى أن تقول أن واحد إنتقل من الأرض إلى السماء مسألة تكاد تكون عادية خصوصاً أن هناك المعراج النبوي المعروف في قضية الإسراء والمعراج.
فبدأت أتعمق في قراءة مسألة الإسراء والمعراج وعثرتُ على نص أخر هو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري حيث نقلنا من الديني المقدس إلى الدنيوي فمنحنا فرصة أن نتخطى هذا الممنوع زمناه أننا أصبحنا في مواجهة عملية إنسانية رغم أنه استعمل نفس المسار المعراجي. ثم قرأت الكوميديا الإلهية لـ« دانتي أليغييري» وهو في نفس النسق. المقارنة بين أبي العلاء المعري وبين الكوميديا الإلهية هي غريبة وبعض المقارنين يقولون أن دانتي تأثر بالمعري لأن بينهم فاصل زمني ثلاثة أو أربعة قرون تقريباً. لكن المعري كان أقوى في التعامل مع المسألة الدنية حيث تخطاها و حولها إلى فعل بشري، بينما في الكوميديا الإلهية في حرص كبير على ألا يمُس المسألة الدينية في كل خطوة يخطوها إلا والفعل الكنسي المسيحي في رأسه. لما نرجع للتاريخ سأجد التفسير لذلك لأنه في فترة أبي العلاء المعري النقاشات الدينية والعلاقة مع الله كانت علاقات لا تؤدي إلى القتل في ذلك الوقت، بينما في القرن الخامس عشر زمن الكوميديا الإلهية، كانت محاكم التفتيش المقدس في عِزّ قوتها. فالإنسان الذي يقول أي كلمة ممكن أن يُقتل.
إذن وجدتُ بأن هذه المادة يُمكن أن تصلح لأن تسمح لي بأن أقوم بهذا المعراج وإستعملتُ نفس الوسيلة المعراجية في لحظة غفوة. والبطل (إللي هو أنا) يفتح عينيه فيجد فجأة بجانبه شخص أخر يلبس الأبيض ويقول له ماذا تفعل في بيتي وأنا أشوف من وراء الستار الناس يبكون، أهله، أخته، أبنائه يبكون، والوجه المُسجىَّ هو وجه الميت الذي يقول أنا جئتُ لأن عندي وظيفة أني آخذكَ نحو دروب النور، اترك هذه الأمور لأنك ما عندك دخل بها، ليقوم بكل طقوس التغسيل و كأنه ميت، ثم يدفع بالبطل نحو دروب النور ليجد نفسه في جبل وتبدأ الرحلة الجبلية للعالم الأخر ليلتقي بجده الأندلسي العظيم ويحكي له الجد عن سقوط الأندلس ولكن برؤيا فردية وليس برؤيا تاريخية، هو كما عاش هذا التاريخ، طبعاً هو تاريخ إيهامي ولكن في الوقت نفسه هو تاريخ أنا أشعر به داخلياً وملكي. ثم يلتقي البطل بالسيدة ذات الشعر الأحمر لتقوده في الجزء الثاني وهو لا يرى وجهها، فتأخذه من يده وتدخل به داخل العوالم حتى توصِّله عند أمه، عند الجدة أولاً التي لها دور كبير في حياتي، و أنا مثل أبناء جيلي بدأت حياتي الأولى فرانكفوني، فاللغة التي بدأت اكتب بها هي اللغة الفرنسية وليس العربية، فالجدة هذه هي التي أدخلتني المسجد فصارت أول علاقتي باللغة العربية، كنت ادرس بالصباح الباكر أدرس بالمدرسة القرآنية وكانت الجدة مولعة بتاريخ الأجداد الأندلسي، وفي الساعة الثامنة اذهب إلى المدرسة الفرنسية وإستمر هذا زمنا طويلاً حتى أني لما تعلمت أكتب اللغة العربية في الكتاتيب وكان المعلم القرآني نقول له «سِيدي» وفي آخر الصف بعد ما نتعلم يعطينا عشرة نُسخ حمراء من القرآن الكريم فنبدأ في قرائتها ونتدرب عليها،كان من بين النصوص، نص مش كويس، هو نص قرآني لكن مفصول غلافه عن الكتاب فلا أحدٍ يأخذه، وفي مرة من المرات كل النسخ القرآنية أُخِذت فأخذت هذه النسخة قرأتها و أحبِّيت اللغة العربية من هذه اللحظة ولكن بعد قرابة سنة وانا أقرأ على أساس أنه قرآن، جاء البيت إبن عمي إللي كان بالمغرب وكانت جدتي«حنا فاطنة» فرحانة أن وليدها أصبح يقرأ باللغة العربية،وقال ويش تقرأ،ماذا تقرأ؟ قلت أقرأ القرآن كريم، فقال ده مش قرآن ده كتاب ألف ليلة وليلة، أنا إنبسطتُ فعلاً وبصراحة لأنه مثل ما يقول الفرنسيين في عملية إنحراف من الديني إلى الدنيوي، ويمكن هذا هو النص المرجعي الثاني في حياتي الذي سيتبعني إلى أن نتعرف على سيرفانتيس لاحقاً ويأخذني عند سيرفانتيس ويأخذني عند الحبيبة الأولى لما كنت صغير وكانت في قسوة في التجربة العاطفية وبعدين ندخل في نقاش مع سيرفانتس الذي بقى سجين خمس سنوات في الجزائر،وبدأ يفكر في كتابة روايته« دون كيشوت» وفي ثلاثة فصول كبيرة بالسيرة مخصصة عن الجزائر في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، وتنتهي السيرة وأتوقف عند هذا الحد. و شكراً .
– هنا أدرك شهريار الصباح لإنتهاء الوقت المحدد، ليتوقف كاتبنا عن سرد تجربته التي شدت كل الحضور من جمهور وكُتّاب بآذان شغوفة لسماع المزيد عن سيرته الحياتية. ولو أننا شعرنا أن في جعبته الكثير والكثير مما يريد أن يبوح به عن تلك السيرة، سيرة المنتهى التي لا تنتهي عند بعض الكلمات عنها.
ولنا تكملة أخرى مع جزء أخر من الأسئلة التي طُرحت بالندوة وإجابات الروائي كاتب السيرة عليها.