الجمعة , نوفمبر 22 2024
كمال زاخر
كمال زاخر

حدث في الدير

كمال زاخر

لم يكن باب كنيسة الدير يفصل بين مكانين بل هو يفصل بين عصرين يباعد بينهما الف وخمسمائة سنة ويزيد، الحوائط بسيطة لا تحمل ايقونات اعتادتها عيناك فى كنيسة المدينة، والصلاة وقوفا وسجوداً على امتداد القداس، فلا مقاعد فيها، إلا صف صغير اضيف مؤخراً لشيوخ الرهبان، بعض من بقايا لوحات جدارية تحتفظ بألوانها الهادئة، تحمل احساس الفنان القبطى وبصماته.ـ

لفت انتباهى ترتيب وقوف الرهبان، يتتالى دخولهم الكنيسة بغير ان تلحظهم، يقفون متباعدين ومتقاربين وفق أقدميتهم الرهبانية، فى غير مزاحمة، ظهورهم للحائط ، نفر منهم يلتفون حول منضدة بعرض كتابين مرتفعة بعض الشيء بما يسمح بالقراءة، يتناوبون ترتيل التسبحة، ثم يصطفون أمام الهيكل لصلاة القداس، يظل الهدوء عنوانهم، والصوت الخفيض يحكم الأداء.ـ

التسبحة فى أغلبها باللغة القبطية، يتردد فيها اسم المسيح بشكل لافت، تحاول ان تلتقط كلمة من هنا أو من هناك، لكنك تتصالح مع اللحن وكأنك تدركه، تنتقل الى صلوات القداس، تتوالى القراءات بتدقيق تدرك معه الخيط الذى يربط بينها، لا مكان للتجويد والزخرف فى اللحن، ليصبح المضمون سيد الموقف، تكتشف ان صلوات القداس تستدعيك لرحلة الخلق والسقوط وتدبير الخلاص، تخرج من ذاتك لتتجول مع آدم فى الجنة، وتناجى الله معه ؛ خلقتنى انساناً كمحب للبشر، اريتنى عظم اهتمامك بى، من أجل تعطفاتك الجزيلة، كوَنتني أذ لم أكن. أقمت السماء لي سقفاً. وثبت لي الأرض لأمشي عليها. من أجلي ألجمت البحر.

تقترب من الأزمة، كتبت فيَّ صورة سلطانك. ووضعت فيَّ موهبة النطق. وفتحت لي الفردوس لأتنعم. واعطيتني علم معرفتك. أظهرت لي شجرة الحياة. وعرفتني شوكة الموت. غرسٌ واحدٌ نهيتني أن أكل منه. هذا الذي قلت لي لا تأكل منه وحده. فأكلت بإرادتي.

تنفتح عينيك على العلاج الذى منحك حياة بعد موت، بترتيب امتد بعمق العهد القديم الذى تتسارع حكاياته وشخوص انبياءه فى لحظات يلخصها الكاهن، أنت يا سيدي حولت لي العقوبة خلاصًا كراع صالح سعيت في طلب الضال، كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقطت، أدبتني بكل التأديبات المؤدية إلى الحياة، أنت الذي أرسلت لي الأنبياء من أجلي أنا المريض، أعطيتني الناموس عونًا أنت الذي خدمت لي الخلاص لما خالفت ناموسك، كنور حقيقي أشرقت للضالين وغير العارفين”.ـ

تؤكد لك الكنيسة أن الأمر متجاوز قدرات الأنياء ؛ أنت الكائن في كل زمان، أتيت إلينا على الأرض، أتيت إلى بطن العذراء، أيها الغير المحوي إذ أنت الإله لم تضمر إختطافًا أن تكون مساويًا لله، لكن وضعت ذاتك وأخذت شكل العبد، وباركت طبيعتي فيك وأكملت ناموسك عني، وأريتني القيام من سقطتي أعطيت إطلاقًا لمن قبض عليهم في الجحيم، أزلت لعنة الناموس، أبطلت الخطيئة بالجسد.ـ

مازلنا فى استغراق القداس نستشعر استردادنا لمكاننا اللصيق بالله وقد عدنا للحوار الذى انقطع بينه وبين آدم، فنسارع باستحضار الخليقة كلها نضعها أمام الهنا المحب، نسأله ان يباركها، الأرض والنيل والزروع ومداخلنا ومخارجنا، والكنيسة وخدامها وشعبها، نسأله ان يعين المحتاجين، ويشفى المرضى، ويبارك بلادنا،ـ
الرعاة أضبطهم والذين يرعونهم ثبتهم
أعط بهاءًا للإكليروس، نسكًا للرهبان والراهبات
طهارة للذين في البتولية، حياة صالحة للمتزوجين
رحمة للتائبين، صلاحًا للأغنياء
وداعة للفضلاء، معونة للمساكين
الشيوخ قؤهم، الذين في الحداثة أدبهم
غير المؤمنين ردهم، لتنقض إنقسامات الكنيسة

تلتقط اذاننا ما جرى عندما أسس رب المجد العهد الجديد بعد أن عجز العهد القديم عن اتمام المصالحة، ونتابع ترتيبات الفصح، نقف من بعد جلوس وتتجه انظارنا الى الشرق لنر عمانوئيل الهنا كائن معنا على المذبح، ونتوق لأن نتقابل معه، بينما يواصل الاب الكاهن الصلوات نصطف نحن أمام الهيكل لنتشارك فى المائدة التى أُعدت لنا، ونتحد به، ونثبت فيه، وننال غفران خطايانا، بحسب وعده الصادق، الذى ترجمته صلوات الكنيسة فى هذا المحفل الإلهى.
لم نكن نحن الأربعة قد اتفقنا مسبقاً على التناول، لكننا وجدنا انفسنا نقف خلف الرهبان ونتقدم بهدوء للتناول.ـ

عدنا الى بيت الخلوة ، جاء الأب الراهب يدعونا للإفطار، سألته تفسيراً لما حدث، وما الذى دفعنا للتناول، كنت اخاله سيحكى عن روحانية المكان، وزخم صلوات الرهبان، ويأخذنا الى ما وراء الطبيعة، فإذا به يعيدنا الى الأرض، أنتم يأحبائى عندما دخلتم الكنيسة دخلت معكم اهتماماتكم المحملين بها، كان الهدوء يلف المكان، والسكون يحيط بكم، والصلوات لا يشاغلها حلاوة صوت او تنافس بين المرنمين، بدأتم فى تتبعها، التسبحة اخذتكم شيئاً فشيئ، صلوات باكر نقلتكم الى اجواء مختلفة، بدأت مشاغلكم تنسحب لتدخلوا فى اجواء الصلاة، التركيز كان حاضراً، بدأتم فى تتبع قصة الإنسان، تدرجتم الى ان رأيتم رب المجد يرتب لكم مائدة ويدعوكم لها، فهل كان من الممكن ان ترفضوا دعوته؟، حدث هذا لأنكم عشتم ترتيب الكنيسة بغير مزاحمة، فلم تعد الصلاة طقساً يتكرر إنما خبرة تعاش.ـ
كانت هذه نقطة تحول ضبطت بوصلتنا .. لم تعد الكنيسة مجرد مكاناً للصلاة ولم يعد الطقس مجرد موروث نلتزم به، بل صارت هى ملتقانا مع رب المجد وصار الطقس ترجمة لمشاعر حب تتجدد يوماً فيوم.ـ

 

شاهد أيضاً

العلاقة بين العلم والدين فرنسيس كولينز يقبل المسيح كمخلص

نسيم مجلى  هذا عالم فيزياء يترأس مشروع الجينوم البشرى، ويبدو أن إعلانه الإيمان بالمسيح قد …