كمال زاخر
ما اشبه اليوم بالأمس البعيد، الموغل فى البعد، ربما لقرون، فيما نشهده من صراعات تشبه صراعات الديكة، فى دائرة المتقدمين فى دوائرنا الكنسية، ربما الفارق بين شخوص اليوم ونظرائهم فى ذاك الأمس هو فى قدر المعرفة التى تأسس عليها الصراع، فبينما كان اسلافهم قامات لها ثقلها فى علوم اللاهوت والمنطق والتحليل
نجد فرقاء اليوم تستغرقهم الضحالة المعرفية، برغم زعمهم انهم الأعلون علما ومعرفة بحكم مواقعهم المتقدمة
سواء فى مقاعد السيطرة أو فى صفوف أولى قريبة منها أو مناوئة لها. بعضٌ من مبررات صراع الأولين
اختلاف المرجعيات اللغوية والفكرية؛ ففريق منهم ثقافته المعرفية يونانية الفكر واللسان
وفى مقابل فريق ثقافته – فكراً ولساناً – لاتينية، الأمر الذى جعل فهم كلاهما لمصطلحات الأخر
يحتاج تدقيق واستيعاب لم يتوفرا لبعضهم فى خضم احتداد النقاش، والذى لم يكن كثيره مجردا
من تدخلات السياسة وتوازناتها.
هذه المبررات ليست الوحيدة، فقد نجم عن استقرار الكنيسة وانتهاء موجات الاضطهاد الممنهج
والرسمى بدعم الامبراطورية الرومانية، أن انطلقت القراءات المخالفة للإيمان المسيحى بحسب الكنيسة الأولى
مما استنفر رجال الكنيسة الاتقياء الأمناء للرد عليها وتصويبها، فى دوائرهم المحلية، لكن المواجهات
تفاقمت لتحدث سجساً فى الشارع يهدد استقرار الامبراطورية، الأمر الذى دفع الامبراطور قسطنطين
الى دعوة الفرقاء للاجتماع تحت رعايته للتوافق على صيغة ايمانية واحدة
وكان تحركه هذا لحماية امبراطوريته من الانشقاق، فكان اجتماعهم المسكونى الأول فى مدينة نيقية 325 م.
ليبدأ عصر المجامع المسكونية.
وهو العصر الذى انتهى وقد دب الانشقاق الرسمى فى جسد الكنيسة، وزوال الامبراطورية.مشكلة الفرقاء
الجدد أنهم لا يقرأون التاريخ ويصنمون مجريات عصر المجامع وينكرون ما كان يحاك فيه من مؤامرات داخل
وحول تلك المجامع، وتحالفات بعض قيادات ومتقدمى تلك المجامع مع سيدات القصر اللواتى كن يوجهن
صراعات جلساتها الرسمية وفق مواقفهن من اطرافها، وقد كشف طيف منها كتاب “مجمع خلقيدونية
إعادة فحص– الاب في سي صموئيل” وهو كاهن وباحث ومؤرخ هندى ارثوذكسى
وتعرضت لها المؤرخة المصرية ايريس حبيب المصرى فى موسوعتها ( قصة الكنيسة القبطية )
وتحديداً فى كتابها الأول منها.
ولنا نموذجاً فى حكاية ق. ديسقورس ورسالته لشعبه الهائج، اثناء انعقاد مجمع خلقيدونية 451م.
والمرفق بها شعيرات ذقنه وبعض من ضروسه التى سقطت جراء التعدى عليه
وقد وصفها بأنها ثمن دفاعه عن الايمان القويم فى مخاتلة سياسية فجة.
ونحن لا نتعرض هنا لواقعة الاعتداء بذاتها وملابساتها، اثباتاً ونفياً، فتلك مهمة المؤرخين.
فرقاء اليوم يكررون بغباء ينفردون به حصرياً تبادل نفس التشويهات والاتهامات، من جانب
والمعالجات الهزيلة التى تستحضر التسامح فى غير موقعه وظروفه، معولين بوهن على الزمن
على جانب مقابل، وينتظرون بقاء كياناتهم مقدسة جامعة رسولية!! .
يصدرون للشارع صورة التقوى فيما الفساد ينخر عظامهم، وتتولى ملابسهم الامبراطورية
المفارقة للزمن والمنطق، ومجامر عبيدهم الذهبية بهالات بخور تحرق أمامهم، تغييب الوعى وتخدير الحس اللاهوتى
ويحرصون على ألا يطير الدخان. لم استطع ان اقرأ تطمينات القديس بطرس كما صاغها فى رسالته الأولى
على واقعنا، فالبلوى المحرقة الحادثة بيننا ليست لامتحان ايماننا، بل بسبب فساده. وقد اختلط برؤى وثنية كارثية.
بالحاح انقلاب من قفزوا على مقاليد الأمور ـ والذى اقتحمنا مواكبا لنكسة عامة تشكلت ملامحها مع قدوم النصف الثانى من القرن العشرين ـ وكان من نتائجها رهبنة الفضاء العام لحياتنا خارج اسوار الأديرة
وهو توجه وجد قبولاً شعبياً تحت تأثير التغيرات الضاغطة سياسيا ومجتمعيا، آنذاك، مع المد الأصولى
فى المزاج العام، كان ظاهر هذا التوجه روحياً لكن باطنه كان تمكينهم من السيطرة برؤاهم النفسانية
على العقل الجمعى للتابعين، وكان لهم ما أرادوا.
وفى واحدة من نتائجه الكارثية الانفصام الذى تمكن من عدد غير قليل من الشباب
الذى وقر فى ذهنة ان الطهارة
فى التبتل، والزواج – بحسب ما تلقنه – هو ثمرة السقوط، فاكتظت بهم محاكم الأسرة
وهجروا بيوتهم وبعضهم ذهب يطرق ابواب الإلحاد.
وتئن البيوت بمآسى تنفطر لها القلوب.
لذلك يقاومون كل محاولات التواصل الجاد مع الكنائس الأخرى، التى قفزت فوق اسوار الجمود
ووضعت الانسان فوق السبت وقبله، وفعّلت طاقات الرهبنة لخدمة الإنسان، وامتلكت شجاعة المراجعات
فى ضوء تطور علوم اللغويات وعلوم الترجمة، ودعت لحوارات مسكونية كنا مشاركين فيها
ولكن جهودنا كسرت على اعتاب بعض اصوليين لم يدركوا فداحة التشرذم.
ولم تعى كيف كسرت تلك الكنائس فخ الانسان العتيق الذى تشَكّل وجدانه هنا بثقافة عثمانية
هذا البعض مازال يتبنى ثقافة الموت والهوان ولم تدركه بهجة الايمان وفرح الحياة فى المسيح
عبر لاهوت الحياة.
الأزمة ليست فى هذا الاسقف وتحالفاته أو ذاك الشماس وجماعته، بل فيما زرع والناس نيام وأكلنا ثماره المسمومة.
فلنبحث بوعى وموضوعية عن ابواب الخروج. ورد المسلوب وتحرير المأسور
بغير ان يرهبنا منهج المقاومين حماية لمصالحهم ومواقعهم فى اثارة العامة وصراخهم… اصلبه… اصلبه.