ماجد سوس
على مدى التاريخ لم يُعرف سلاح أقوى من حرب الأفكار ومن ينتصر فيها.
تلك الحرب التي يخوضها الأشرار والأخيار منذ بداية الخليقة، حتى أن الأولين أدركوا
حقيقة جوهرية مفادها أن تقويم السلوك الإنساني يبدأ بتجديد الذهن.
الشعبيون لخصوها في أحد أمثالهم المصرية الشهيرة بمقولة، “الزن على الودان أمرّ على السحر “.
وسلاح الأفكار هذا يستمر منذ ولادة الإنسان وينتهي برحيله عن هذا العالم.
إن الأفكار والمعتقدات تشكل ما يُعرف بالإيديولوجية، التي توجه سلوك الفرد والجماعة
كلاهما يحمل أيديولوجياته الخاصة به في كل نواحي الحياة.
ولعل أخطرها المتعلق بالسياسة والدين والاقتصاد، تلك الأمور التي قد تُفضي إلى ثورات
وتمردات وانقسامات.
ومن بين أشهر الإيديولوجيات السياسية التي غيّرت مسار التاريخ، الاشتراكية، الديمقراطية، الليبرالية، والقومية.
وهناك الحركات الدينية ومن أشهرها، الصهيونية والتي أسسها ثيودور هرتزل
والحركة المسيحية البروتستانتية التي قادها مارتن لوثر وكالفن وحركة الإخوان المسلمين
التي قادها حسن البنا وكلها أيديولوجيات لعبت على أفكار الناس وحركت توجهاتهم.
والخطأ الفادح – في اعتقادي – يكمن في التصور أن الإيديولوجيات ثابتة لا تتغير ولا تتطور.
ولعل من أكثر الكلمات التي تثير حنقي، حينما تخرج إلى النور حركات تنويرية، فتجد من يرفضها بمقولة: “استلمناها هكذا”.
لا تزعجني كلمة “استلمناها” بقدر ما يزعجني “هكذا”، لأنها تعبر عن فكر السلفي وأصولي الذي يُراد به باطل. لقد استلمنا مباني بسيطة ووسائل مواصلات متواضعة، لم نلغِ الفكرة، ولكن طورناها.
فالثابت أننا نحتاج إلى وسائل مواصلات، والمتغير أننا سنطورها كلما سنحت الفرصة.
ورغم سيطرة الإيديولوجيات الدينية والسياسية على العالم عبر العصور، إلا أن ماردًا جديدًا بزغ بقوة على الساحة وتسلل إلى كل جوانب الحياة، حتى أضحت الهيمنة له.
هذا المارد هو التكنولوجيا، التي كشفت المستور والمحجوب، وجعلت للجاهل قبل العالِم قدرة على الوصول إلى أعماق الأمور ومكنوناتها بمجرد ضغطة زر.
لقد فاقت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قدرة الإنسان على تجميع المعلومات وتحليلها وتفنيدها بل واتخاذ القرارات بشأنها في أقل من دقيقة.
إن الإيديولوجية والتكنولوجيا كلاهما قوى محركة للتغيير.
وعلى مدار الزمن، اقتربتا وابتعدتا، لكن في أيامنا هذه، استطاعت التكنولوجيا أن تؤثر ليس فقط على إيديولوجيات المجتمع، بل كادت أن تمحو بعضها أو تهز صورتها التي بقيت عليها لأجيال.
مؤخرا، في الصراع الإسرائيلي اللبناني الفلسطيني، لعبت التكنولوجيا دورًا حاسمًا في تفوق الجانب الإسرائيلي
على الصعيد التقني، رغم تعقيدات الإيديولوجيا التي حكمت الصراع، إلا أن التكنولوجيا العسكرية المتقدمة
كانت عاملاً رئيسيًا في التفوق الإسرائيلي الملحوظ على المقاومة الفلسطينية واللبنانية فالقتل عن طريق تكنولوجيا الاتصالات مع وجود تكنولوجيا المراقبة وجمع المعلومات، الطائرات بدون طيار، وأجهزة الاستشعار عن بُعد
مع وجود منظومة “القبة الحديدية” وهي من أكثر التقنيات تقدمًا التي استخدمتها إسرائيل للدفاع عن نفسها ضد الصواريخ القصيرة المدى.
التكنولوجيا هنا فاقت الإيديولوجيا التي كانت تعتمد بشكل أكبر على الحماسة الدينية والوطنية لدى هذه المجموعات.
نحن أمام منعطف تاريخي جديد قد يقود العالم إلى تغيير جذري لأمور كنا نظنها ثوابت لا تتغير باتت متغيرات يصعب تثبيتها.