قلبٌ أحب . تحليل أدبي لشخصية رسولة الرسل (3)
بقلم /عصام الجوهري
لم يكن الظلام الذي ما زال باقياً هو السبب في أن عينا مريم لم تكن تبصر ، بل كان ما يحجب عنها الرؤية تلك الدموع التي لم تتوقف لحظة واحدة عن التساقط ، وكانت أفكارها المتصارعة تحجب عنها أن تفكر فيما يجب أن تراه العيون.
ولكنها مضطرة راحت تذكر نفسها : كيف أذهب إلى القبر وحدي ؟
كيف أسير هذا الطريق بمفردي ؟
كيف يمكنني ألاّ أصطحب مَنْ كنّ واقفات معي عند صليبه ؟
فبدأت تتجه إلى بيت مريم خالته وزوجة كلوبا ثم الى بيت سالومة زوجة زبدي واصطحبتهما معها .
وراحت تطرق أبواب بيت يوحنا حبيبه وابن سلومة ، فهي تعلم أن مريم ام يسوع قد ذهبت معه بعد الصلب مباشرة
وحين فتح يوحنا الباب فوجئ بأمه وخالته مريم ومعهن المجدلية وتعجب من منظرهن ولماذا تجمعن
وبعد أن فهم أدخلهن إلى مريم التي ما إن رأوها حتى تعجبوا من منظرها ، فهي لم تكن تلك الباكية المنتحبة
بل لقد هدأت نفسها كثيراً بعد أحداث الصلب .
وحين قالوا لها هيا بنا يا مريم هيا نذهب إلى ذلك البستان
ونفتح القبر ونكفن جسد الحبيب ، فإذا بمريم تنظر وكأنها تبتسم وهي تقول لهم
“إذهبوا أنتم فأنا لن اذهب إن ابني لم ولن يكن مجرد جسد يمكن أن يكفن ، أنا لن أذهب إليه وهو يأتي إلي”َّ
كانت العذراء وحدها من تصدق ابنها الحبيب وتعرف أنه في اليوم الثالث سيقوم لم يفهموا
ونظروا إلى بعضهن البعض وكأن مريم قد أصابها نوعاً من الهزة النفسية التي أثرت على تفكيرها ، ففضلوا أن يتركوها ويمضين وحدهن إلى القبر .
وراحت المجدلية تذكرهن وتذكر نفسها متسائلة: ماذا نفعل إن وصلنا إلى هناك ؟
كيف يمكن أن نفتح القبر وعليه هذا الحجر الكبير ؟
من يدحرج الحجر ؟ من يزيل العقبات ؟
وراحت وكان صوتها صوت نحيب وحنين وهي تناجيه ، تناجي ذلك الراقد في القبر قائلة : آه يا حبيبي لو كنت حياً بعد لما احتجت لسواك ، كان يمكن أن ترفع كل أثقال العالم عن قلبي ، كنت تنزع عني كل شك وتطهر نفسي من كل قلق ، أيناك يا حبيبي يا من أقمت العازر بكلمة ؟
أليس هناك من يناديك أنت هلّم خارجاً ؟
آه يا يسوعي الحبيب لم يكن سواك يقيم الراقدين ، لقد ضاع بموتك رجائي إلى الأبد ، يوم رقدت في القبر
فقدت أنا كل أمل في الحياة .
وفيما كانت خطواتهن تهرول نحو القبر كان حديثهم المشترك هو صمت الحزن الذي قهر كل كلمات أفواههن ، طغى الحزن حتى جف اللسان ، وهل هناك كلام يرتفع إلى مستوى الحدث ؟
إن حزنهن أعظم من كل الكلمات ، وكيف لكلمات تخرج الحزن الميت من قبر القلوب ؟
لقد سكن الحزن قلوبهم واستقر إلى أجل غير منظور ، وسيدوم هذا الحزن ما دام الحبيب في القبر .
كان الطريق الطويل بين تلك المدينة الباغية أورشليم وذلك البستان الهادئ القابع في أحد أطرافها طويلاً ، حتى كاد الشك يتسرب إلى داخل نفس المجدلية ، وراحت تردد في نفسها :
هل كان حقاً إبن العلي ؟ هل كان مليك السماء ؟
هل هو فادي البشر المسيّا المنتظر ؟ كيف والموت والحربة وإكليل الشوك لمن كانوا ؟
هل يموت الإله ؟
هل يقبض على المحبة لتنزل إلى الهاوية ؟
يا مرّ نفسي لقد صدقته ، لقد آمنت به ، كنت أنتظر اليوم الذي فيه سوف يملك حتى أجلس عند قدميه ، فلم اكن أبغي إلاّ أن أكون جارية في قصره العظيم .
هل تحوّل كرسي العرش إلى خشبة علق عليها ؟ هل تحوّل الأمر والسلطان والجبروت إلى موت وانكسار وصراخ ؟
لكن برغم كل شيء ما زلت أحبك حتى وأنت في القبر ، لا زلت مالك قلبي وسيد نفسي ورب حياتي ، إن كنت لم تملك على الارض كلُها فقد ملكت على قلبي ،كلّ قلبي ، شيء واحد لا شك فيه رغم رياح الشك العاتية هو أنك أحببتني ، أحببتني بلا سبب وبلا مقابل .
وفجأة عادت النسوة تتذكر الحجر الضخم ، من يزيل الحجر عن باب القبر ؟
من يفتح الطريق أمامهن إلى جسد المحبوب ؟
وظلّت تلك أفكارهن حتى دخلن إلى البستان واقتربن من القبر ، وكانت كل لحظة وكل خطوة يخطونها داخل البستان مقتربين من القبر تزيد المأساة عمقاً ، والحدث الجلل
هولاً ، فإننا الآن أمام مشكلة فمن يحلّها ونحن نسوة ضعيفات البدن ؟
كيف يمكننا أن نحرك هذا الحجر الضخم ؟
ومن يمكنه أن يساعدنا ؟
من تى وانت مجرد جسد ميت يمنعوننا عنك ويمنعوك عنا ؟
أين أنت يا من كنت تجتاز من وسطهم ؟
وما أن وصلت النساء إلى القبر حتى انتزعت المفاجأة منهن صرخات غير متوقعة ، وجحظت عيونهن لتبصر أكثر ، لعل الدموع أعاقت الرؤية ؟
فكيف يمكن لعقولهن أن تعي ذلك ؟
وكيف لمداركهن أن تفهمه ؟
إن ما يحدث أمامهن شيء عجيب لم يكن متوقع على الاطلاق ، وهذا هو الأمر الذي غيّر وجه التاريخ كلّه .
فكيف عاشت المجدلية تلك اللحظات ؟
وكيف استقبلت وتعاملت مع الأمر ؟
ولماذا استحقت أن يظهر يسوع لها ذاته اولاولماذا ارتفع صوته بوجهها قائلا لها ( لا تلمسيني)
رغم كل تلك المحبة الدافقة ؟
انتظرونا في الحلقة الرابعة
المجدلية
عصام_ااجوهري