الإثنين , نوفمبر 25 2024
كمال زاخر

همهمات انتخابية

ضمن عشرات وربما مئات من حكايات الطفولة تقفز من الذاكرة حكاية ذاك المدرس النابه الذى وقف بين تلاميذه الصبية، وأخرج من جيبه عملة نقدية ورقية تتجاوز مصروفهم اليومى، وقال لهم، من يرد هذه العملة فليأتى ليأخذها، فلم يحرك تلاميذ الفصل ساكناً

وقد سرت بينهم همهمات مضغمة، إلا تلميذاً واحداً، ترك مكانه واتجه حيث المدرس وأخذ العملة، وسط صمت مطبق من بقية التلاميذ، لم يقطعه إلا تصفيق المدرس، وعاد الصبى إلى مكانه، فرحاً بهدية الأستاذ الثمينة.

فى ظنى أن الحكاية تؤكد أهمية بناء الثقة بين طرفيها، وأن يصدق الصبية عرض المدرس وجديته.

تخيلت نفسى أنه قدر لى أن اعيش زمن الحكاية، ذاك الزمن السحيق والمتخيل، وقد اقتربت من الصبية فى الفترة ما بين عرض المدرس وتقدم ذاك التلميذ الذى “صدّق” المدرس، واتخيلهم وقد اقتربت رؤسهم فى حلقات يهمهمون فيما عُرض عليهم، واحدة من الحلقات راحت تشكك فى جدية العرض واستدعى من فيها، خبراتهم السابقة، التى تؤكد نكوص المدرس عن وعده، وتحول المشهد إلى حالة من التهكم على من يتقدم ليحظى بهدية المدرس الذى يشاركهم – بغير إعلان – تهكمهم.

فكان العزوف قرارهم، وعندما دق جرس الفسحة، التقى التلاميذ يتندرون على تلك الواقعة بعيداً عن عيون المدرس، ويشيدون بذكائهم وصحة قرارهم بعدم الاستجابة.

حلقة أخرى راحت تستدعى تجارب الفصول المجاورة والتى تعيش نفس أجواء المدرسة، بتنويعات مختلفة فى تفاصيل الحكاية، ان المدرس طلب تشكيل لجنة من التلاميذ، تتلقى اسماء من يريد الفوز بما عرضه المدرس،

بشروط: الانتظام فى الحضور المدرسى، والنجاح فى امتحانات الشهر، والالتزام بتعليمات المدرسة، والتحلى بالأخلاق وغيرها، ويتقدم لها من تنطبق عليه هذه الشروط، ثم تنظم اللجنة عملية تصويت الفصل على من يرونه الأجدر، وتجمع اوراق التصويت وترتبها، وتعلن من فاز وفق اختيار أغلبية الفصل، خرج التلاميذ من الفصل وبقيت اللجنة، وبعد دقائق تعلن اللجنة اتفاق غالبية التلاميذ على عدم استحقاق أياً من المتقدمين لعطية المدرس، وبقيت العملة النقدية فى حوزة المدرس.

فيما كانت حلقة ثالثة تستعرض تجربة مدرسة ثالثة، التى اختلف فيها عرض المدرس، وكان هو المشرف على شئون فصله، أن يفسح المجال لاختيار أحدهم ليحمل عنه مهمة الاشراف، ويكون اسم المدرس مطروحاً ضمن الاختيارات، وهو عرض متكرر بشكل دورى، اللافت أن النتيجة كانت واحدة، مع بقاء الاجراءات وطقوس التصويت كما هى فى كل دورة، كان المدرس هو الفائز.

كان وراء فوزه نشاط بعض من التلاميذ مهمتهم خلق حالة من الخوف من عواقب عدم اختياره، وتتعدد المبررات والحكايات، ولا تختلف النتائج … فى تأكيد لدور الخوف.التجارب السلبية والمتكررة هى التى تحاصر محاولات المدرس فى اكتساب ثقة التلاميذ، ويدعم هذا الحصار من يخشون من نجاح عرضه، فيطلقون قنابل دخانهم عبر ترويج اشاعاتهم، وهم يسعون لعدم نجاح مسعاه خشية أن تنتقل الى فصولهم، وبعضهم يدرك مردود قيادة هذا الفصل الذى ينعكس فى تقارير ادارة المدرسة ومفتشى الوزارة بمزيد من الترقيات الدورية والاستثنائية له، وتأكيد جدارته ليس فى فصله وحسب بل وفى استحقاقه لإدارة المدرسة، أو على الأقل الاقتداء بتجربته.

كان للمدرس، بطل حكايتنا، ادواته التى يحرص على تفعيلها؛ منها حرصه على تنمية مداركه فى فهم احتياجات فصله، وتوزيع مسئوليات تدبيرها على النبهاء من التلاميذ، وحرصه على الحوار الايجابى معهم، وتدريبهم على قبول التعدد والتنوع، باعتبارهما سر قوة فصله ونجاحه، ويدعم كل هذا قدرة المدرس على عدم الميل لفصيل منهم بسبب تميز شخوص هذا الفصيل فيما يعتقدون أو يملكون أو خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو قوتهم أو قدرتهم على فرض اختياراتهم، باعتبار أن هذه كلها هى دعامات لما يسعى لبناءه فى تكوين جيل يعيش الديمقراطية فى ابسط معانيها، وحين ينتقل الجيل من مرحلة دراسية لأخرى تنتقل معه الخبرات الايجابية هذه، وتصبح نسق تفكير واسلوب حياة، تنتقل منهم إلى مجتمعاتهم الصغيرة، ومنها الى دوائر اوسع، بهدوء لكن بقوة، ببطء لكن الى الأمام.

كان سر نجاح هذا المدرس المتخيل فى أمانته وتجرده، وحبه لفصله وتلاميذه، ووضوح الهدف عنده، واهتمامه بأن يسجل دفتر أحوال المدرسة تجربته لتبقى لأجيال قادمة، فللزمن احكامة وللتاريخ تقييماته، والمتجاوزة للمصادرة والمنع، وقدرته على التوثيق تقفز وتتأصل بتطور ادوات التواصل والانتشار.

شاهد أيضاً

لماذا تصلي الكنيسة على المنتقلين !؟

جوزيف شهدي في الايمان  الارثوذكسي أن الكنيسة الموجودة على الارض تسمي الكنيسة المجاهدة وأن أبناءها  …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.