بمناسبة مرور عشر سنوات على ثورة الشعب المصرى على حكم الاخوان الارهابى لابد ان نتذكر بعض الذين عاشوا تلك الأيام الصعبة ودافعوا عن ثوابت الدولة والأمة المصرية وتعرضوا للمخاطر ومنهم هذا الرجل:
المستشار غبريال..رجل لا يحب الأضواء
بقلم: نسيم مجلى
ولد المستشار غبريال جاد عبد الملاك فى محافظة سوهاج سنة 1942 وتخرج فى كلية الحقوق جامعة القاهرة سنة 1964بتقديرجيد جدا مع مرتبة الشرف، وعين مفوضا بمجلس الدولة ثم تدرج فى المناصب القضائية حتى أنتخب رئيسا لمجلس الدولة فى الفترة من يناير 2012 حتى 30 يونية 2013،
فى عهد الرئيس المعزول محمد مرسى، وهى فترة عصيبة بالنسبة للمصريين جميعا وللقضاة بصفة خاصة.
وقد انضم الاستاذ غبريال إلى كوكبة عظيمة من رجال القضاء الأبطال التى تضم المستشارأحمد الزند والمستشارة تهانى الجبالى وآخرين ممن وقفوا يدافعون بقوة وشجاعة عن استقلال القضاء وسيادة القانون فى وجه حملة تتارية شنتها عصابة الاخوان المسلمين، بعد أن اختطفوا ثورة 25 يناير وسرقوها من أصحابها الحقيقيين، واستطاعوا الإستيلاء على الحكم
وتنصيب محمد مرسى رئيسا للجمهورية. ثم ابتدأوا مرحلة التمكين باستيلائهم على مفاصل السلطة والعمل على تبديل هوية الدولة المصرية صاحبة التاريخ الحضارى الممتد لألاف السنين بقصد اقامة نظام أرهابى يهدف إلى القضاء على الحريات العامة والفردية باسم حكم الشريعة.
كانت التضحيات عظيمة، فقد قتل الإخوان أعدادا كثيرة من الناس الأبرياء بل وقتلوا النائب العام هشام بركات وقتلوا مئات الشباب ممن قاموا بالثورة بقصد ترويع الشعب حتى يستكين الجميع لهم.
كان غرضهم الأول هو تركيع الدولة بضرب القضاء وإرهاب القضاة بالهجوم على المحاكم ومحاصرة المحكمة الدستورية ومنع القضاة من الدخول لمتابعة أعمالهم، وكذلك الهجوم على بعض دور الصحف واشعال النارفيها ومحاصرة مدينة الإعلام والإعتداء على بعض الإعلاميين وحرق سياراتهم.
وهكذا بمجرد أن تولى محمد مرسى السلطة كرئيس للبلاد إلا أن رجال القضاة الشرفاء يساندهم الأدباء والمثقفون هبوا كرجل واحد فى وجه هذه الهجمة الظلامية وتصدوا لها بقوة وشجاعة وأخذوا يفضحون خبث الإخوان المسلمين ويكشفون نواياهم السيئة واستطاعوا أن يؤلبوا كل طبقات الشعب عليهم حتى انفجرت المظاهرات فى موجات عاتية~بالملاين والتحمت بقوات الجيش، وقوات الشرطة ولسان حالهم يهتف ” يادولة الظلم انمحى وبيدى ” وهكذا فى أيام قليلة اقتلع شعب مصر النظام الخائن المتآمر مع أعداء الوطن لتقسيم أرض مصر، وضرب وحدة شعبها.
وكان المستشار غبريال ضمن هذه الكوكبة من رجال القضاة العظماء وفى الواجهة بحكم منصبه كرئيس لمجلس الدولة إذ وقف بثبات يواجه الهجوم على المجلس عن طريق المظاهرات التى تحاصر المجلس وتهدد بالاعتداء على بعض القضاة اثناء انعقاد الجلسات وكذلك المكائد والفتن الداخلية التى يشعلها بعض صغار النفوس للإيقاع بين الموظفين الاداريين وبين المستشارين بحجة التباين الكبير فى المرتبات والبدلات
وقد تصدى لها المستشارغبريال بثبات وشجاعة كما تصدى للدفاع عن استقلال مجلس الدولة وعن حصانة القضاة من أجل ضمان الحيدة فى الأحكام وتحقيق العدالة.
ولقد اتسم موقفه بالحكمة والشجاعة منذ البداية وهى صفات لازمته طيلة عمله فى ميدان القضاء.
ولقد أصاب محرر الأهرام المسائى حين قال عنه” تشعر وأنت تحاوره برقى وموضوعية رجل القضاء وشهامة وجرأة الصعيدى الضاربة فى عروقه منذ ألاف السنين “.
ولقد تجلت هذه الصفات فى عديد من المواقف سواء فى توضيحه لمهام مجلس الدولة أو فى الدفاع عن استقلالية هذا الصرح وحصانته ضد أى تدخل او تأثير من السلطة الحاكمة ثم راح يحذر كل من تساوره نفسه قائلا:
” ولا تنسى أن المادة 168 من الدستور المصرى تنص على أن التدخل فى شئون العدالة أو القضايا جريمة لاتسقط بالتقادم فمؤسسة الرئاسة والدوائر المرتبطة بها تعلم جيدا خطورة هذا الأمر لأن من يتجرأ على ارتكاب هذه الجريمة ويحاول إخفاءها بسلطاته الحالية ستتم ملاحقته بعد تركه الحكم خاصة، واننا الآن بعد الثورة التحقنا بسنة أولى ديموقراطية والدستور ينص على أن الرئيس المنتخب مدته 4 سنوات فقط ثم تجرى الانتخابات
فمسالة الرئيس الأبدى انتهت الى غير رجعة وأحب أن أؤكد أن مجلس الدولة قبل الثورة وبعدها جهازمستقل له حصانة لآتملك أى جهة الاجتراء عليها ”
ثم أضاف أنه يرفض تدويل الخلاف بين القضاة وبين الدولة لأنه شأن داخلى ونحن قادرون على تجاوزه.
وإيمانا منه بهذا المبدأ سعى ضمن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء لمقابلة الرئيس وإبلاغه برفضهم لمشروع قانون السلطة القضائية الذى كان مطروحا على مجلس الشورى الاخوانى وقتها والذى تنص إحدى مواده على تخفيض سن التقاعد بالنسبة للقضاه الى خمسة وستين عاما أو ستين عاما فقط، وشرحوا للرئيس أن هذه المادة فى حالة موافقة مجلس الشورى عليها تعنى عملية ” عزل مقنع للقضاه يتعارض مع الدستور الذى ينص على أن القضاة غير قابلين للعزل وتعيدنا إلى أجواء مذبحة القضاء سنة 1969″.
ثم أكمل المستشارغبريال كلامه قائلا ” وقد استمع الرئيس محمد مرسى لشرح اعضاء المجلس وتم الاتفاق معه على عقد مؤتمر للعدالة لكى يجتمع القضاة فيه لوضع قانون السلطة القضائية بأيديهم، ولكن حدث ان كثيرا من الصعوبات والتحديات عرقلت إعداده “
وهذا كلام مهذب يتفادى التصريح بماهية القوى التى عطلت ذلك. (1)
وكان الهدف من القانون المطروح على مجلس الشورى حينذاك ان يتخلص الإ خوان من شيوخ القضاة توطئة لاحلال طابور اخوانى من المحامين محلهم، وذلك لضرب نظام القضاء المصرى من أساسه تمهيدا لتطبيق ما يسمى بقوانين الشريعة وحكم الفقيه.
وخلاصة القول إقامة نظام استبدادى لا يحترم أدمية الإنسان ويؤسس شرعية للجماعات الإرهابية كجماعة ” الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ” التى تقوم بالتعرض للناس فى الشوارع وتوقيع عقوبات قطع الأيدى والأرجل وتشويه البشر كما يحدث فى بعض البلاد الأخرى.
وجاءت الطامة الكبرى فى شكل انقلاب عاصف على الديموقراطية حين أصدرالرئيس مرسى الإعلان الدستورى فى 22 نوفمبر2012، بتحصين قراراته من الطعن عليها أمام المحاكم وإقالة النائب العام وتعيين نائب آخر بدلا منه دون الرجوع إلى مجلس القضاء الأعلى.
وأشعل هذا الإعلان الدستورى الموقف فهب القضاة يرفضون هذا الإعلان واعتبروه عدوانا صارخا على القضاء وبدأت الاحتجاجات تتوالى من كل مكان فى مصروقررت بعض الهيئات الإضراب
وقرر نادى قضاة مصر ونادى قضاة مجلس الدولة تعليق العمل بالمحاكم، واختلف شيوخ القضاة حول الإضراب وتعطيل العمل بالمحاكم.
وبات الأمر غاية فى التعقيد وعلى حد وصف المستشار أحمد مدحت المراغى حين قال:
“الإعلان الدستورى إعتداءعلى استقلال القضاء والإضراب يضر بمصالح المتقاضين”. (2)
وقال المستشار غبريال إن هناك طعون بوقف وإلغاء الإعلان الدستورى منظورة فى محكمة القضاء الإدارى ومن ثم ” فإنه يرفض إبداء الرأى حول الإعلان الدستورى سواء بالتلميح أو التصريح لأن محكمة القضاء الإدارى هى وحدها صاحبة الحق فى ذلك”
وأكد فى الوقت نفسه ان ” الدستور ينص على عدم تحصين أى قرار من رقابة القضاء ليس فقط على درجة واحدة وانما على درجتين أمام القضاء الإدارى مرة ثم أمام الإدارية العليا”(3) وبهذا حكم وبطريق غير مباشر على عدم دستورية الإعلان الدستورى الذى أصدره مرسى.
ذلك كان موقف المستشارغبريال فى مواجهة الإخوان، لكن هناك دورأ تنويريا آخر قام به فى مجال شرح المبادىء القانونية والتعريف بدور مجلس الدولة فى حماية الحقوق والحريات العامة.
عن طريق محاضرةهامة جاءت فى وقت عصيب كانت الشوارع تمتلىء فيها بالمتظاهرين وبالأصوات الزاعقة التى ترعد وتهدد وجاء كلامه هنا بمثابة تنبيه إلى أهمية العودة إلى العقل والتفكير بهدوء فى إعمال القوانين والمبادىء الهامة التى تضمن حماية السلم الاجتماعى والحقوق والحريات المدنية.
بقى أن تعرف المستشار غبريال الإنسان كما عرفته أنا.
لم أسمعه أبدا يتكلم عن نفسه أوعن أعماله وهى كثيرة، رغم أننا نتجاور فى السكن ونتزاور ونتحدث احيانا فى بعض الأمور الحياتية والمشاكل الاجتماعية ومعاناة الناس وكان رأيه دائما أن نتوجه إلى الله بالصلاة والله قادر أن يحل جميع المشاكل.
لكنه كان يسارع دائما للسؤال عن المرضى وعمن يحتاجون للمساعدة ويقوم بزيارتهم دون أن يذكر شيئا عما فعل أو قدم.
وظل على هذا المنوال طيلة هذه السنوات حتى صار مثلا فى إنكار الذات والبذل. كان يخدم فى الكنيسة يحض الناس على التسامح والمحبة وعمل الخير لم يسمعه أحد يتكلم يوما عن شىء يخصه أوعن عمل قام به أو مساعدة قدمها لأحد، وكنا جيرانه وأصدقائه نستشيره أحيانا فى بعض المنازعات الخاصة بإ يجارات المساكن مثلا فكان يشرح لنا القانون ويوصى بالتفاهم وعدم الاستمرار فى الخصومة لأن دوام المودة بين الناس يقوى العلاقات الاجتماعية السليمة ويساعد المجتمع على التقدم والنهوض فى جو من السلام الدائم.
كانت هذه هى رؤيته المعروفة التى يبشر بها فى عظاته بالكنيسة وكان يربطها دائما بحقيقة إيمانه المسيحى. فالدعوة إلى السلام والمحبة هى لب رسالة المسيح وعلى كل من يؤمن بالمسيح أن ينكر ذاته ويؤدى عمله محبة فى جميع البشر من كل دين ومن كل لون وجنس دون تفرقة أو تمييز.
وقديما قال الفيلسوف اليونانى لأحد تلاميذه “تكلم حتى أراك ” وأخيرا تكلم المستشار غبريال فرأيناه كبيرا بين الكبار وسمعنا صوته هادئا رصينا مميزا يركز على قيمة الإنسان وحقوقه الطبيعية وحريته فى مجتمع تسوده العدالة وسلطة القانون.
هوامش:
1- الأهرام المسائى 23 مايو 2013 ص5
2- الأخبار 30 نوفمبر ص9
3- الأخبار 28ديسمبر ص6
4- هناك حوارات عيديدة ولقاءات أذاعتها القنوات الفضائية فيها مزيد من الشرح والتفصيل لمن يريد المزيد من المعرفة.