الجمعة , نوفمبر 22 2024
باسم الجنوبى

فى التأصيل التاريخي لجدلية الزواج

كتب باسم الجنوبى

القرن الأول

شهد إصلاحات ثورية على الشريعة اليهودية بالمجمل، نجد أغلبها في كلمات المسيح ذاته، والتي يمكن إجمال أهمها في: رفض التدخل في المواريث – إرساء شريعة الزوجة الواحدة والنظر للزيجة الثانية على أنها علاقة غير شرعية – تحريم الطلاق بالإرادة الحرة المنفردة للذكر إلا في حالة الزنا – إعادة النظر في علاقة الإنسان بالله على إنها علاقة “بنوة” (تبنّي) – بجانب فصل واضح بين الدين والدولة، ومساواة تامة بين الجنسين.. أيضا تسبب تعبير المسيح “في السماء لا يزوجون ولا يتزوجون” في إشكالات اجتماعية، حيث تم النظر للزواج كـ” حالة أرضية مؤقتة” قد تعيق أو تشغل الإنسان عن الاهتمام بالسماء، وهو ما استدعى الكنيسة الأولى لتحفيز المسيحيين على الزواج حفاظا على البقاء.

القرن الثاني

شهد إلغاء لكافة التشريعات اليهودية ومقاومتها كـ: “بدع تهود” كما شهد تأسيسا للمسيحية كديانة مستقلة، لها هيكلها التنظيمي المستقل. أدى ذلك لصناعة تراتبية في القيادة لتجنب مشكلات صناعة القرار. في هذا العصر تقلصت مساحة المساواة لإتاحة القيادة للذكور، أيضا زاد التركيز الأخلاقي على قيمة “العطاء” للمعالجة الاجتماعية لأزمات المواريث المحظور التدخل فيها كهنوتيا.

أيضا زاد الاعتماد على دور القانون المدني (الروماني) في التنظيم ليس فقط كمسألة فصل بين الدين والدولة، بل إعطاء السيادة للدولة في حالات التعارض.

نجد هذا واضحا في النص المؤسس لشريعة العهد الجديد التي تحض العبد على طاعة سيده حتى الموت، أو في إطاعة الحاكم حتى لو كان ظالما، أو في طاعة المرأة لرجلها.

انعكس هذا أيضا على التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية حيث سمحت المسيحية الناشئة بالزواج المختلط وتعدد الزوجات لمن يعتنق المسيحية ولم يتحول شريك (شركاء) حياته للديانة الناشئة.

أي أن استقرار الأسرة مقدّم عن عقائد كلاهما.

ومن هنا يمكننا رؤية الجذور العقائدية لتمسك الكاثوليك المعاصرين بفكرة إن الزواج الكاثوليكي يقوم بين شخصين أحدهما كاثوليكي (فكرة الزواج المختلط)

من القرن الثالث وحتى القرن العاشر

من القرن الثالث وحتى القرن العاشر: تمتلئ الوثائق والعظات الكنسية بالنصح والإرشاد والتوجيه الوعظي، وتخلو تماما من طقوس خاصة بالزواج، أو النظر إليه كمسألة دينية (سر مقدّس) كما يقال اليوم.

في طول هذه الحقب وعرضها لا يوجد أي تدخل من أي سلطة بخلاف القانون المدني والعرف الاجتماعي.

وعلى الرغم من أن الطلاق، كما هو معروف اليوم، كان مسموحا به عموما حتى القرن العاشر، إلا أن الفصل بين الزوج والزوجة وإلغاء الزواج كانا معروفين أيضا (الانفصال الجسدي – التفريق بين الزوجين – بطلان الزواج)

القرن الحادي عشر

حدث الانشقاق الأرثوذكسي (الانشقاق الكبير) عام 1054 ويقصد به انفصال كنيسة القسطنطينية تحت مسمى الروم الأرثوذكس، عن كنيسة روما (الكاثوليك) هذا وإن تم رسميا في القرن الحادي عشر، إلا أن له أسبابه السياسية والتاريخية اللي بدأت من القرن السابع وتفاقمت في التاسع.

وما يهمنا هنا أنه طيلة هذا العصر للكنائس التقليدية وحتى انشقاقها، لم يرد أي ذكر للزواج كـ”سر مقدّس” ولم يكن له أية طقوس كشعيرة دينية. هناك مخطوطة تاريخية واحدة تسجل طلب الكنيسة الكاثوليكية من رعاياها لأول مرة توثيق زواجهم المدني في سجلات الكنيسة حتى يتثنى لهم منع تعدد الزوجات، مما يستدل منه أن المسيحيين حتى هذا العصر أيضا لم يقوموا بأي مراسم للزواج داخل الكنائس، وكافة أحوالهم الشخصية لم تكن منظمة من الكنيسة بل تخضع للأعراف الاجتماعية والقوانين المحلية المتعددة.

القرن الثالث عشر

طلب البطريرك الكاثوليكي “إنوسنت الثالث” من أعضاء حركة دينية منشقة تريد العودة للكاثوليكية في عام 1208، الاعتراف بأن الزواج كان سرا مقدسا كشرط للعودة للكاثوليكية. وفي عام 1254، اتهم الكاثوليك الولدينسيين بازدراء سر الزواج عندما قالوا: “إن المتزوجين يخطئون بشكل مميت إذا اجتمعوا بدون أن تكون الذرية هدفهم” (المقصود هنا أن الزواج للإنجاب فقط وإﻻ عد خطية قاتلة… فاضطرت الكنيسة لتقديس الزواج لمكافحة هذا)

القرن الخامس عشر

عرّفت الكنيسة الكاثوليكية عبر “مجمع فلورنسا” عام 1439، الزواج بأنه “سر مقدس”، ووصفت الزواج بأنه “لا يمكن حلّه”، ومن ثم يكمل المقطع: “على الرغم من أن الفصل بين السرير أمر قانوني بسبب الزنا، فإنه ليس من القانوني عقد زواج آخر، لأن رابطة الزواج المعقود بشكل قانوني: هي قائمة [ دائمة ]”

القرن السادس عشر:

تسببت الأحوال الشخصية في حدوث انشقاقين متتاليين، الأول هو انشقاق البروتستانت 1521 والثاني هو الانشقاق الأنجليكاني 1538 حينما كان الملك “هنري الثامن” في البداية كاثوليكيا، ويريد الطلاق من زوجته “كاترين من أراغون” التي لم تنجب له وريثا للعرش، ولما أحس بقلة حيلته أمام موقف البابا الرافض للطلاق، ساند الانشقاق البروتستانتي، للتزوج بأخرى، ثم قام بإعلان انشقاقه وصنع ما يعرف بـ”كنيسة انجلترا”.

تشكلت ضده تحالفات جديدة كانت تعارض موقفه الانفصالي إزاء كنيسة روما، إلا أنه كان بالمرصاد لكل معارضيه، فطاردهم في كل مكان، وشملت حملته الكاثوليك والبروتستانت على حد سواء.

أيضا في القرن السادس عشر، ونتيجة الانشقاقات المتعددة عن الكنيسة الكاثوليكية السالف ذكرها، كان هناك سعيا للتقارب بين الكنيستين المصرية والكاثوليكية في عصر البابا رقم ٩٦ “يوأنس الرابع عشر” (١٥٧١م – ١٥٨٦م) ودعى البابا مجمع الأساقفة القبطي للانعقاد في “مصر القديمة” وحدث انقسام حاد في الآراء.

أغلب الأساقفة كان مع تقارب الكنيستين، بينما الأقلية كانت أصولية تخشى الذوبان داخل العملاق الكاثوليكي الباحث عن الحلفاء.

ديمقراطية المجمع أدت للقبول لكن المعارضة أجهضت الأمر باغتيال البابا يوأنس١٤ بدس السم له في طعامه.

لا يسجل التاريخ الرسمي للكنيسة اغتيال البابا سوى كونه [مزاعم كاثوليكية لم تثبت صحتها] وتم صياغة الحدث بتفاهمات سياسية مع السلطان العثماني “مراد الثالث” على إن البابا كان ساذجا وسيدخل الروم لأرض مصر وقام الأساقفة بالتصدي وطرد الإرساليات الكاثوليكية.

أما موت البابا فهو انتقام إلهي من السماء لمحاولته التحالف مع الهراطقة.

بالتنوع الملائم لكل عرف اجتماعي وخاصة أنها ليست قضية لاهوتية أو دينية من الأساس، وتعتبر خطرة عند المسيحيين الذين لا طلاق لديهم.

لذا رفض “كيرلس الرابع” تقنين الخطوبة باعتبارها “وعد غير ملزم”مر القرن العشرين بعدة تحولات، أهمها صدور لائحة 1938 للأقباط الأرثوذكس وهي التي مازالت تحظى باهتمام أغلبية الأقباط حتى اليوم، ولا يخلو سجال دون ذكرها.

فهي خلاصة الحصيلة المصرية للأحوال الشخصية بما يتسق مع الشريعة المسيحية، وهي مؤسسة على تراكم القانون الكنسي وخبرات المصريين الأرثوذكس في حل مشاكلهم الاجتماعية. وحتى بعد صدور قانون 55 بإلغاء المحاكم الشرعية، تم العمل بهذه اللائحة في المحاكم الوطنية.

مر القرن العشرين أيضا بعدة تحولات في صناعة القرار داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبالأخص فيمن له سلطة الإصدار للائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس.

فمن نصوص شرائعية مسيحية صريحة المعنى تحظر على الكهنوت التدخل في تقسيم المواريث، وتحظر على الرهبان التدخل في شؤون المتزوجين، نصل إلى أن سلطة التعديل صارت في يد البابا “شنودة الثالث“، والذي هو راهب وكاهن سويا، فأدخل تعديلات (آخرها في 2008) تستهدف حل مشكلات سلطوية الكنيسة على المجتمع عبر تقنين هذا التسلط بسلطة الدولة، وكلها تعديلات سببت مشكلات اجتماعية حادة نتيجة التغول في القيادة الاجتماعية بشكل منفرد، وصل لتقييد الحق في الزواج إلا بشهادة خلو موانع، أو بمنع الزواج إلا بتصريح من الكنيسة.

أي أنه سلب المواطنين الحق في الزواج بجعل الأصل فيه هو الحظر، لا الإباحة.

القرن الحادي والعشرين

ظهرت تحولات جديدة في عصر البابا “تواضروس الثاني“، معظمها يسرع قليلا من الإجراءات دون تغيير حقيقي في القوانين. أيضا هناك خطاب للبابا جهر فيه بأن “لا طلاق إلا لعلة الزنا” هي مقولة وليست نصا مقدسا، لكنه تعرض لضغوط أجبرته على التراجع. لكن التحولات الاجتماعية ظهرت بوضوح أكبر في كتاب الأنبا بفنوتيوس (أسقف سمالوط) عن “المرأة في المسيحية”، حيث طرح رؤية مؤسسة فقهيا تستعيد للمرأة بعضا من مكانتها الاجتماعية وعن حقها في ممارسة الشعائر في فترة الحيض والنفاس دون عوائق، بالمخالفة للخطاب الأصولي المتشدد السائد قبل ذلك.الأهم على الإطلاق هو خطاب المتنيح الأنبا إبيفانيوس (رئيس دير أبو مقار وخليفة الأب متي المسكين) والذي ألقاه في “كلية اللاهوت الإنجيلية” عن “شروط الانضمام لطائفة الأقباط الأرثوذكس” وفقا للقوانين الكنسية، حيث استخرج بشكل أكاديمي مخطوطات تقول بصحة الزواج من الكاثوليك والأرثوذكس وغيرهم، ثم خطب بعدها في “معرض الكتاب” قائلا إن منع الزواج من غير الأرثوذكس ليس أمرا دينيا بل من مخلفات الاستعمار بدأ مع القرن الثامن عشر.

أيضا للأنبا إبيفانيوس محاضرات عن الليتورجيا (الطقوس المرتلة) خاطب فيها طلابه أن بداية الإصلاح هو الاعتراف بالخطأ، وذكر مثالا لذلك الخطاب الكنسي الذي يرفض الاعتراف بنجاسة المرأة رغم وجود نصوص ليتورجية تقول هذا.كان البابا تواضروس يعد إبيفانيوس لمنصب “مراقب بابوي على الحوار المسكوني”، لكنه قتل غدرا داخل أسوار دير أبو مقار، بواسطة اثنين من الرهبان.

شاهد أيضاً

جورج البهجوري بنكهة وطن !!

بقلم عبدالواحد محمد روائي عربي فنان تشكيلي كبير عاصر كل نجوم الثقافة العربية محيطا وخليجا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.