للكاتبة إيناس المغربي
الموت والحياة .. والصحة والمرض جنود مجندة من قِبل الله تعالى خُلقوا بقدره وقدرته، ولا دخل لنا فيهما ، ولا في اختيار الأقدار والمصائر والآجال كذلك، فكلها بأمره سبحانه !! قد نعيش أحلاما ورديةً وأياما عسجديةً وأوقاتا جميلةً تزهو برونق الشباب وغضارة الصبى، وتشب معها الصحة في الأبدان والتألق في الوجدان، ظانين أنها دائمة تحلو بها الحياة، وستظل على حالها أزماناً مديدة
لكن تصاريف الأقدار وعوارضها وأحداثها لا تسير على نسق ثابت ولا منوال واحد، فلابد من حدوث تغيرات وتطورات على أثرها فيتبدل حال الأنسان وجميع المخلوقات من الصعود إلى الهبوط ومن الدوام إلى الزوال، ومن الضيق إلى السعة، وهكذا الحياة ما بين كر وفر، واقدام وإحجام، فهي لا تعرف الاستقرار على صورة أو هيئة واحدة، كتعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول والأجواء !!
فلا ربيع دائم ولا خريف باق، كلها مردوه إلى سنة الحياة الدنيوية التي قدرها الله في كونه وفي خلقه ..
لا تبقى ولا تستمر على وتيرة واحدة .
فعندما يبتلى الإنسان بمرض قاهر، ويذل بعرض من عوارضه المؤلمة، يحزن على ماض مضى، وشباب ولى وصحة فنيت وذكريات انمحت، ونرى ذلك دائما أمامنا جليا فيمن هم أكبر منا سناً كأجدادنا وأباءنا، نراهم وقد أَلَمَّ بهم العجز، وأحاط بهم العوز، وحاصرهم الخوف والضعف والاستسلام لما هو مخبوء خلف سدفة الزمان، فتسح العين دمعها وتتحول الآهات إلى أنين حزين يدق القلوب بمطارق من حديد، حتى لتكاد الضلوع تقفز خوفا وفزعا من الصدور، وتتحول الأنفاس الهادئة المطمئنة إلى زفرات ملتهبة نارية، وتنوح الصدور بآلام مبرحة كأنها ولولة الدهر حينما ينوح في مأتمه ،ويكون الموت لديهم أرحب من الحياة، والفناء يصير أرجى من البقاء .
فكيف يكون حال من عاينهم وعاش آلامهم وقام على رعايتهم ليلاً ونهارا ساعة بساعة و دقيقة بدقيقة ؟!! قطعاً سيغتمون لحالهم ويتألمون لآلامهم، وستدمى مآقيهم لهذه المحنة السوداء التي ألمت بهؤلاء الضعفاء وبأنفسهم كأنها ظلام الليل الدامس ومحنته الداكنة فينهزمون نفسيا وجسمانيا وعصبيا أمام مرضهم وعجزهم و كثرة احتياجاتهم المستمرة !! فيشعرون وكأنهم في سجن مظلم أقفاصه من حديد وطعامهم من غسلين وشرابهم من حميم من كثرة مسؤولياتهم وتلبية مطالبهم !! فكيف لهم من خروج ؟!
وكيف لهم من مهرب من هذا الظرف العصيب؟!! وهؤلاء الضعفاء العاجزون هم أمهاتهم وآباؤهم وأحب أحبابهم .. هؤلاء الذين جرعوا الحياة علقماً وشربوا الغم مترعا وسهروا الليالي مُسهدين مُأرقين من أجل بسمة في ثغر صغيرهم وتهلل فرحة على وجه كبيرهم .
ومع اختناق الحياة ومشاكلها وأعبائها وفقرها، ومتطلبات الأبناء ومسؤولياتهم يشعرون بأن الذين هم يعولونهم وكأنهم في بحر لُجي مظلم تُلاطمهم الأمواج من كل جانب ومن كل حدب وصوب، لا يستطيعون الوصول بسفينتهم التي تحمل على متنها تلك الآلام المبرمة والمتاعب الشديدة كل هذه المسؤوليات إلى بر واحد كي ترسو عليه سفينتهم !! فكيف الخلاص وكيف التوفيق بين متطلبات الأبناء وخدمات الأباء المرهقة وقد عادوا كالأطفال مرة أخرى !!
فكان حتما وبدا ولزاما على الأبناء مهما كانت ظروفهم المعيشية أو أعمالهم الحياتية او رعاية أبنائهم اليومية او احتياجاتهم المادية، أن يبروهم ويطيعوهم حباً وكرامة لهم، وردا لمحبتهم إياهم !! ولكي يوائموا بين أعمالهم وأبنائهم وبين أباءهم وأحبائهم كان عليهم بكثرة التفكير وكيفية التدبير في كيفية الموازنة بين طرفي المعادلة الواجب المحتم بين الأباء والأبناء مما جعلها مهمة مرهقة ومعادلة صعبة تعرضهم للضغط النفسي والأنهيار العصبي !! فوجدتني أقول لهم عبارة قرأتها بعد معرفتي بشعورهم الملازم لهم دوما بالاضطراب الذي أفسد حياتهم والقلق الذي شتت أذهانهم والعسر الذي أحسوه ان ليس بعده يسر هي :
(أرض بما ليس منه بد )
وكما قال الرسول “صلي الله عليه وسلم” ( ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس ).
وكما نصح أحد الفلاسفة نصيحته الحكيمة وهو “وليم چمس ” (كن مستعدا لتقبل ما ليس منه بد فإن تقبل الأمر الواقع خطوة اولى نحو التغلب على ما يكتنف هذا الأمر الواقع من الصعاب) ،وقال “شوبن هور ” ( إن التسليم بالأمر الواقع ذخيرة لا غناء عنها في رحلتنا عبر الحياة ) فما الذي يحدث لنا إذا قاومنا صدمات الحياة بدلا من ان نلين حيالها ؟!!
وما الذي يحدث إذا رفضنا أن ننحني ” كغصن طري” وأصررنا على المقاومة، كشجر البلوط ؟ فالجواب سهل !! سوف نقلق وتتوتر اعصابنا وتمرض نفوسنا ،فإذا وصلنا بعد هذه المقاومة ورفضنا مواجهة الحقائق فإننا نُرد على اعقابنا ونلجأ إلى أوهام من صنع خيالنا ،وهذا هو الجنون!!.
وقالت سارة برنارد التي كانت نموذجا للمرأة التي عرفت كيف ترضى بما ليس منه بد .
فقد كانت ملكة متوجه على عرش المسرح وظلت معشوقة الجماهير ولكنها اصيبت بمرض تسوس العظام الذي ساقها لقطع رجليها قالت ” عندما نكف عن النقمة على ما ليس منه بد فسوف نطلق بذلك سراح نشاط يمكننا من خلق حياة افضل حافلة بالسعادة ..!!
فلابد ان نعلم إن الظروف ليست هي التي تمنحنا السعادة أو تسلبنا إياها وإنما كيفية استجابتنا لهذه الظروف هي التي تقرر مصيرنا ، وإن في استطاعتنا جميعا ان نتحمل المصاعب والمآسي بل وأن نتغلب عليها فإننا نملك من القوى الذاتية ما ينصرنا على هذه المصائب و المصاعب، ومهما عارضنا او اعترضنا وثرنا ونقمنا فلن يغير هذا شيئا مما ليس منه بد فإما أن نسلم بما ليس منه بد وإما ان نحطم حياتنا بالقلق والاضطراب وتنتهي في اغلب الأوقات بالانهيار العصبي !! وهل تكون الحياة حياة إن هي خلت من فواجع الدهر ،وهل تستشعر نفوسنا لذة الماء البارد بغير حرمان القطر في هجير حارق لا يحتمل ، ولو دامت حلاوة الدهر لصارت نعمته كنقمته ولأصبح العطاء كالحرمان ولأضحت العطايا كالبلايا والمنح كالرزايا !!
فعلينا إن لم نجد بد في التخلص من المشاكل والابتلاءات بطريقة صحيحة وترتيبات حصيفة ،فعلينا بالإذعان والخضوع لأقدار الله ،كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عن يحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ ) فالله سبحانه قريب ممن دعاه ورحيم بمن استرحمه وودود لمن أمل فيه الخير وانتظر فرجه ورحمته !!
احسنتى النشر دكتورة الله يبارك فيكم