هذه ورقة العشرين جنيها، والرسم البطل فيها مأخوذ نقلا حرفيا من الجدارية اليسرى لبهو المعبد الكبير لرمسيس الثاني في أبو سمبل على مشارف الحدود الحالية لبلادنا مع السودان الشقيق.
التصميم على ورقة العشرين جنيها يكاد يكون صورة طبقة الأصل من الحفر الغائر الممثل في معبد أبو سمبل. أقول “يكاد” لأن هناك فروقا طفيفة لكنها بالغة الأهمية في الفن المصري القديم، وإذا زرت معبد أبو سمبل بنفسك
ستكتشف الفروقات التالية:
أن الصورة على ورقة العشرين جنيها تنظر في اتجاه عكسي لوضعها الحقيقي في المعبد.
لقد ذهب الفنان المصري القديم إلى تصميم رمسيس الثاني على عربته الحربية مندفعا من الغرب للشرق
أي من اليمين إلى اليسار على الجدارية وليس من اليسار إلى اليمين كما يبدو على هذه العملة الورقية.
لقد خرج جيش مصر بقيادة رمسيس الثاني من بلادنا مندفعا عبر سيناء (من الغرب للشرق)
بهدف محاربة من يهددون مصالحها الجيواستراتيجية من جهة مملكة آسيوية
اتخذت من بلاد الشام معقلا لشن هجومهم على مصر.
أن تصميم ورقة العشرين جنيها وإن استطاع الحفاظ على أرجل الخيول فبدت وكأنها أربعة أقدام بما يوحي بوجود فرسين يطيران بالعجلة الحربية السريعة وليس فرسا واحدا إلا أن الورقة️ أغفلت أن الذراع الأيمن الممشوق لرمسيس مرسوم في الأصل وكأنه ذراعين وأن القوس المشدود مرسوم في المعبد وكأنه قوسين.
ويذهب بعض المفسرين إلى أن كلا من الأقدام الأربعة لفرسي العربة ليست إلا لفرس واحد، وأن القوسين ليسا إلا لقوس واحد، والذراعين الأيمنين الممشوقين ليسا إلا لذراع واحد، وقد جاء كل ذلك في الحفر الغائر عمدا ليعطي عمقا للصورة ويمنحها “ديناميكية” فتبدو كأننا نشاهد فيلما متحركا لحدث تجاوز عمره 3200 سنة.
أما أسباب تخليد الفنان المصري القديم لهذا الحدث فيمكن إيجازه فيما يلى:️
لم تكن الحدود الشرقية لسيناء مع فلسطين هي حدودنا كما اليوم، بل اخترع التاريخ المصري المصطلحات التي ستعرفها المدارس الأوروبية بعد آلاف السنين مثل: “الأرض العميقة” و “مناطق تكسر القوى” و”النطاق العازل” والـ”عمق الاستراتجي.”أما المصطلح الأهم الذي تتبناه إسرائيل اليوم فقد اخترعته مصر قبل آلاف السنين وهو “نقل المعركة إلى أرض الأعداء”.
️النقش الغائر الذي نراه في معبد رمسيس الثاني في “أبو سمبل”يجسد مشهدا من معركة “قادش” التي دارت رحاها بين مصر ومملكة “خيتا” التي تسميها الكتب المدرسية مملكة “الحيثيين”.
️تقع قادش اليوم في قلب الأراضي السورية قرب حدودها مع لبنان وبالتحديد على نهر “العاصي” وهو اسم له دلالة أيضا في العمل الجغرافي. فإذا كان من غير المعروف من أطلق اسم “العاصي” على ذلك النهر فإن التفسير معروف وهو أن هذا النهر خلافا للأنهار العظمي المجاورة – مثل دجلة والفرات – يسير “عاصيا” الجغرافيا والجيولوجيا فيتجه من الجنوب للشمال.
لكن من عجبٍ أن هذا النهر العاصي الذي دارت عنده معركة قادش يناظر نهر النيل فيسير مثله من الجنوب للشمال. ولعل في ذلك ما يذكرنا بما سجلته بعض المصادر من أن المصريين القدماء كانوا يتندرون – بدوافع المركزية المصرية المبالغة في الذات – فيصفون نهري دجلة والفرات بأنها أنهار تسير في الاتجاه الغلط مخالفة للاتجاه “المقدس” الذي يسير فيه النيل من الجنوب للشمال.
️خلد رمسيسي الثاني انتصار معركة قادش في عديد من المعابد المصرية وكلف الأدباء بتدوين أشعار تصور الانتصار عملا إعجازيا سحق به رمسيس رؤوس الأعداء فأماتهم بضربة صاعقة ماحقة وقضى عليهم إلى الأبد.
️في العصر الحديث ستكشف الدراسات الأثرية في قادش وغيرها أن ما تم لم يكن نصرا حاسما لمصر أو مملكة خيتا بل توازن في القوى انتهى باتفاق ومعاهدة سلام بين الطرفين لأن أي منهما لم يستطع أن يحسم الأمر لصالحه.
️وخلافا لمن يقولون إن رمسيس الثاني بالغ في تمجيد ذاته وصور الأمر انتصارا ساحقا إلا أننا بمعايير الجغرافيا السياسية والعسكرية يمكننا القول إنه كان محقا، إذ أن “نقل المعركة إلى أرض الأعداء” هو نصر لا جدال فيه حتى لو كانت النتيجة وقف عدوانهم خارج تخومنا.
️لكن حتى لا نبالغ في أمجاد رمسيس الثاني أكثر من اللازم ينبغي القول إن هذ الملك لم يخترع هذا المصطلح فقد سبقه ملوك آخرون أقربهم إليه والده الفرعون “سيتي الأول” (حكم مصر فيما بين 1290 و 1279 ق. م) الذي كان قد اتخذ من قادش تخما شماليا لمصر.
وكل هؤلاء ليسوا إلا مقلدين للقائد الرائد الفريد “تحتمس الثالث” الذي كان سابقا على رمسيس الثاني بقرنين من الزمان بالتمام والكمال (حكم مصر من 1479 إلى 1425ق.م).
يعود الفضل لتحتمس الثالث في بناء أكبر خريطة لإمبراطورية مصرية عبر التاريخ وصياغة مفهوم العمق الاستراتيجي ونقل المعارك إلى أرض الأعداء تماما كما تفعل القوى العظمى اليوم في 2022.
️ قبل مئتي عام من معركة قادش التي يمجدها رمسيس الثاني تجاوز تحتمس الثالث أرض قادش إلى ما هو أبعد منها فقامت مصر في عهده بغزو ساحل الليفانت واخترقت بلاد الشام فوصلت إلى تخوم مملكة خيتا نفسها في الإقليم الذي نسميه اليوم جنوب غرب تركيا الحديثة.
كيف نجح رمسيس الثاني في أن يخطف أبصارنا ويشغل خيالنا بمعركته في قادش وانتصاره المسجل في نقش غائر خالد في أبو سمبل ونأخذ منه مشهده الأثير المثير فنضعه على ورقة العشرين جنيها؟
دعونا نجيب في مقال مستقل.
نقلا عن صفحة الدكتور عاطف معتمد