مدحت موريس
بمحض ارادته أو أن الزحام لفظه خارج الاتوبيس…نظر حوله وتأكد أنه لم يخطىء محطة نزوله، فرد مظلته يحتمى من أمطار بدأت ثقيلة تنذر بيوم موحل…عبر الشارع قافزاً بين السيارات الواقفة لأجل غير معروف فهى دائماً واقفة مع تغير الوان الاشارة من الأخضر الى الأصفر ثم الأحمر وهى على حالها وكأنها تمردت على الالوان الثلاث وتنتظر لوناً آخر لتتحرك. دخل المبنى الضخم العتيق حيث اطبق المظلة وصعد درجات السلم فى بطء متعمد فأمامه عشر دقائق تفصله عن المواعيد الرسمية للعمل سيضيعها فى عد درجات السلم الملتوية حتى يصل الى الدور الرابع…وتساءل بينه وبين نفسه كيف سيكون الحال عندما يتقدم به العمر؟ وهل سيستطيع ممارسة رياضة صعود السلم مستقبلاً ؟ ام ان المصعد المعطل منذ تعيينه بتلك الادارة سيتم اصلاحه؟ عام مضى على تعيينه ولم يسعده الحظ ان يرى المصعد من الداخل!!! والعجيب ان مع المصعد يعمل فجأة عند زيارة السيد وكيل الوزارة المفاجئة ثم يتعطل مرة أخرى بمجرد مغادرة السيد الوكيل…ابتسم ساخراً وهو يتذكر السيدة نوال -زميلته فى المكتب- والتى كثيرا ما ضبطها صاعدة بالمصعد دونا عن الآخرين. تذكر ما قالته عنه بانه شاب قوى ذو جسد رياضى…وأخجلته كلماتها لكنها أسعدته فى نفس الوقت فهو بالفعل ذو جسد رياضى ممشوق لانه شاب ملتزم مواظب على الصلاة، يحافظ على صحته فلا سهر ولا تدخين ولامكيفات على الاطلاق كما انه يمارس رياضة المشى بصورة يومبة وما اكثر الايام التى كان مجبرا فيها على ذلك .
جلس على مقعده، خلف مكتبه ،أخرج ورقة كتب فيها بعض الآيات ليبدأ يومه بقرائتها ثم أراد فتح درج مكتبه..ولكن أين مفتاح الدرج؟ عبثت أصابعه فى جيوبه..أخرج حافظة نقوده ثم أفرغ كل ما فيها أمامه ولم يجد المفتاح…لعله قد نساه فى بيته….”اوعى يكون جيبك مخروم يا حلو” هكذا قال عماد زميله المستظرف دائماً.. لم يرد عليه لكن ايمان وهى أيضاً زميلته قالت وهى جالسة على مكتبها وعيناها ترقب محتويات جيوبه التى تناثرت على مكتبه”حلوة قوى الميدالية دى” ابتسم مرتبكاً وسارع بلم ما تناثر على مكتبه ووضعه فى جيوبه مرة أخرى “لا..لم تلاحظ شىء” هكذا قال فى نفسه “انه مجرد منديل ورقى مثله مثل ملايين المناديل فكيف لها أن تلاحظه؟”. والحقيقة أنه أخفى المنديل الورقى والذى يحمل رائحة السيدة نوال وكان قد أخذه خلسة من فوق مكتبها محتفظاً به لسبب لا يعلمه.
سار اليوم عادياً بعد أن فتح درج المكتب بالقوة والحقيقة أن الدرج لم يكن بحاجة الى مفتاح خاصة مع قدمه وتآكل خشبه. لم يكن هناك جديداً فى هذا اليوم سوى الغياب المفاجىء للسيدة نوال والذى لم يهتم به زملاء المكتب اما هو فقد تأثر كثيراً بغيابها بل أن اليوم مضى عليه ثقيلاً…اندهش من شعوره نحوها وهو الذى كان دائم الانتقاد لها سراً وعلناً فهى سيدة مطلقة والمطلقة فى مجتمعنا لابد وأن تسير بسلوكيات معينة منعاً للشبهات هكذا ما كان يقوله علناً، أما ما كان يقوله لنفسه سراً فهو انها امرأة مفعمة بالأنوثة..امرأة حقيقية ولابد من أن تكبح جماح أنوثتها بالاحتشام والالتزام اللازمين لئلا توقع الآخرين فى تجارب هم فى غنى عنها،و الحقيقة انه كان يدرك بداخله أنه هو هؤلاء “الآخرين”.
كان أكثر ما يخشاه..نظراتها التى كانت تؤكد انها تعلم بل تفضح ما يدور بداخله، ارتعشت يداه فجأة ليسقط منه القلم فانحنى ليلتقطه والتفت جانباً نحو المقعد الخالى وتخيل ساقيها أمامه ثم رفع رأسه متسائلاً كم من مرة سقط منه القلم فى وجودها.
،سمع دقات كعب حذائها،دق قلبه بعنف والتفت…لا لم تكن هى،أخرج منديلها من جيبه مسح به جبهته ثم وجهه..مازال يحمل رائحتها أخذ نفساً عميقاً ولم يلحظ عماد وهو يراقبه ” ايه يا عم انت عرقان؟ ده الجو برد…اقترب منه ثم أضاف هامساً “ولا علشان مدام نوال غايبة؟” ، نظر نحوه معاتباً فابتعد عماد بينما ظل هو يتذكر كلمات عماد عنها ووصفه اياها بالمرأة اللعوب…وكان هذا الوصف هو الأكثر احتراماً بين كل ما قاله عنها. نهض متجهاً للمدير طالباً أجازة مرضية..غادر المكتب تلاحقه نظرات عماد الساخرة وكأنه يتهمه بأنه ذاهب للقاء نوال.
غادر المبنى وخطرت بباله فكرة مجنونة لماذا لا يذهب للسؤال عنها فهى زميلته وتغيبت فجأة وفى النهاية أوجد المبررات الكافية لزيارتها. فضل أن يسير حتى منزلها، وفى الطريق بدأ يتذكر بدايته فى العمل حيث كان من حظه أن تتولى هى تدريبه فيجلس بجوارها ويقترب منها حتى صار يستنشقها طوال اليوم وتمنى لو استطاع أن يحبس رائحتها بداخله.
نظرات وابتسامات ثم كلمات وتجرأ يوماً فنصحها بأن تغير من ملبسها وماكياجها وعطرها بل ومن أسلوب تعاملاتها وكان ردها صارخاً وفاضحاً له بأن قالت ” يعنى عايزنى أتغير بالكامل رغم انى عاجباك قوى وأنا كده” آثر بعدها الا ينصحها.
وطوال الطريق اختلطت كلماتها له بكلمات عماد عنها علاوة على رؤيته الشخصية لها..ثم وجد نفسه أمام بيتها..تردد ثم قرر أن يصعد ولكن كيف له أن يصل لبيتها بهذه السهولة؟ هو لا يدرى!!! كلمات عماد الكثيرة عنها جعلته يحلم بها بالأمس…كان حلماً جميلاً..كانت ترتدى فستاناً رائعاً يبرز أنوثتها، تراقصا واقترب منها جداً حتى كادا يلتصقان. لكنه فجأة توقف عن استكمال الحلم وهو يرى باب شقتها مفتوحاً..وبالداخل انتشر رجال الشرطة حول جثة مغطاة ونظر اليه أحدهم وأخرج منديلاً بداخله مفتاحاً يعرفه جيداً انه مفتاح درج مكتبه المفقود..نظر الى المفتاح فى ذهول وبينما هم يقتادونه سمعهم يتحدثون عن الرجل الذى قضى جانباً من الليل معها ثم عن بصمات الأصابع التى تم رفعها من على رقبة القتيلة. وفى ” بوكس” الشرطة ويداه مكبلتان بالاساور الحديدية استكمل بقية حلم الامس والذى فى الحقيقة لم يكن حلماً.!!!