مختار محمود
حرمت دول عربية مجاورة رجالِ الدين من الجمع بينَ “المنبر الدينىِّ” وبينَ “العملِ السياسىِّ”، بعدما أدركت خطورة هذا الجمع في إثارة الفتن وتقسيم المجتمع وإهانة الدين، غير أنَّ الأمرَ في مصرَ شديدُ الاختلاف والتبايُّن، فلا يزالُ خلطُ “السياسىِّ” بـ “الدينىِّ” قائمًا ومستمرًا ومُؤلمًا ومُزعجًا ومثيرًا للجدل. كنا نعيبُ على دولة الإخوان الزائلة الخلطَ بينَ السياسةِ والدين، فسقطتْ دولتُهم سريعًا إلى غيرِ رجعةٍ، ولكنْ بقيتْ ظاهرة استخدامِ الدين لأغراضٍ سياسيةٍ واضحة ومكشوفة للعيان، بل إنَّ الظاهرة تتفاقمُ يومًا وراءَ يوم، ومناسبة بعدَ مناسبة، بالشكل يجعلُ الحليمَ حيرانَ. خلالَ السنواتِ القليلةِ الماضية، صارتْ هذه الظاهرة البائسةُ أشدَّ تغوُّلًا، والذين كانوا يهاجمونها في الماضى، أصبحوا يدافعون عنها بكلٍّ ضراوةٍ، وغدا أمرُ الدين عندَهم “هيٍّنًا”، وهو عندَ اللهِ “عظيمٌ”.
معَ كلِّ استحقاقٍ سياسىٍّ جديدٍ أو قرار حكومي غير رشيد.. يتبارى رجالُ الدين الرسميون في استصدارِ فتاوى لا يمكن وصفُها إلا بأنها “سياسية ومختومة بختم النسر”، لا يهدفون من ورائها إلا اللهثَ وراءَ مصالحَ شخصيةٍ بغيضةٍ، تتمثلُ في بقائهم في مناصبهم، أو الارتقاءِ بهم إلى مناصبَ أعلى، كما يسترضون بها أصحابَ الحلِّ والعقدِ. تلكَ الظاهرةُ العربية الإسلامية بامتيازٍ الموغلة في التاريخ، لا تنالُ من هيبةِ رجالِ الدينِ والمُشتغلينَ به والذين يسترزقون منه فقطْ، ولكنَّ الخطرَ الأعظمَ يتجسَّدُ في أنها تشوِّهُ الدينَ، وتثيرُ حولَه الغُبارَ، وتهزُّ صورته، أمامَ الأجيالِ الناشئةِ، ولعلَّ هذا أبرزُ أسبابِ تنامى ظاهرةِ الإلحادِ، وما يتبعُها من التجرؤ على الثوابت والمُقدسات والبُعدِ عن الدين، أو التعامُل معه بِخفَّة واستهزاء.
لا يفهمُ رجالُ الدين الرسميون أنه عندما يتمُّ إقحامُ الدين في السياسة، فإنَّ الدينَ سوف يقعُ في قلب التوظيف السياسي ويتعرضُ لمآزقَ لا تنتهي، فالدينُ، أيُّ دينٍ، مناطُه القيمُ المُطلقة، أما السياسةُ فتبقى قائمةً على النسبيةِ والمساوماتِ والمناوراتِ والصراعاتِ والمكاسبِ.
كما يجهلُ أولئكَ المُعمَّمونَ أنه لا يمكنُ أن تقوم علاقةٌ وطيدة بين مبادئ الدينِ المُطلقةِ من ناحيةٍ، وبينَ وآلياتِ السياسةِ النسبيةِ من ناحية ثانية، وأنهم بصنيعهم الآثمِ هذا، يدمرون الدينَ، ويفسدون المُجتمعَ، وينثرون الفتنة، والفتنة نائمة، لعنَ اللهُ مَن أيقظها، ونفخ فيها.
ما زلنا نتطلعُ إلى علماءِ دين حقيقيين صادقين أصفياء أنقياء أتقياء لا يخلطون عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا، علماء دينٍ يعملون لوجهِ الله، وليس لوجوهِ البشر، فاللهُ باقٍ.. والبشرُ زائلون.