مدحت موريس
توقفت سيارة الاسعاف أمام قسم الاستقبال بالمستشفى…أربعة أفراد خرجوا منها تحرك كل منهم بخفة ورشاقة، تحركاتهم تدل على ادراكهم العميق لمهام عملهم، من باب السيارة الخلفى تدلى سرير يحمل مريضاً هبط فى سهولة ويسر على أرضية الطريق المؤدى الى باب الاستقبال..ليدفعه أحدهم حتى مكتب الاستقبال فيدون بيانات المريض ثم تقوم احدى الممرضات باستلامه وبعد قياسات سريعة تبتسم فى ملائكية للمريض الذى جاوز السبعين وتخبره أنه سيبقى فى احدى غرف الاستقبال بصورة مؤقتة حتى يفحصه الطبيب المناوب.
ابتسم المريض…ضحك فانتابه سعال حاد وأعاد القول وهو يتنفس بصعوبة….”بصورة مؤقتة”…كررها عدة مرات وهو لا يستطيع مقاومة ضحكاته…تركته الممرضة بعد أن أوصلت بجسده أسلاكاً موصلة ب”مونيتور” تبين حالة قلبه. ابتسم ابتسامة ساخرة وأصداء كلمة “مؤقتة” ترن فى رأسه…لتتحول الى خلفية لمشاهد حقيقية لحياته. فرأى نفسه وهو شاب يحمل شهادته الجامعية ويحمل معها طموحات وأحلام وردية تتبدد كلما تقدم الى وظيفة، قاوم اليأس فى البداية ثم سرعان ما وقع فريسة له، لكنه قرر أن يعدل مسار حياته بأن يقبل وظيفة “مؤقتة” فى غير مجال تخصصه يواجه بدخلها متطلبات الحياة على أن يواصل البحث عن حلمه فى العمل فى مجاله الذى يحبه ويتقنه. عندما عثر على فتاة أحلامه لتشاركه حياته المقبلة، بدأت رحلة البحث عن مسكن الزوجية واتفقا أن يتصرفا فى حدود الامكانيات المتاحة فاستأجرا مسكناً بصورة “مؤقتة” على أطراف المدينة متحملين مشاق التنقل اليومية على أمل تدبير مسكناً مستقراً فى المستقبل القريب. عاودته الممرضة مرة أخرى بابتسامة مشرقة وهى تنظر الى المونيتور..وأخبرته أن الطبيب سيراه بعد قليل. انقطع المشهد واستسلم لمشهد رأى فيه نفسه مع زوجته فى سوق الأثاث المستعمل باحدى الدول الخليجية….فان كان لن يعمل فى مجال تخصصه فالأولوية هنا للمادة تلك كانت وجهة نظره عندما تعاقد على العمل بالخليج واتفق مع زوجته أن يكون العمل بالخليج بصورة “مؤقتة” حتى يكون رأس المال اللازم لمشروع حياته فى مجال تخصصه فيعود الى الوطن ويبدأ فى تنفيذه. وفى الخليج قضى سنوات استأجر فيها مسكناً “مؤقتاً” واشترى أثاثاً “مؤقتاً” وفى نفس الوقت صرف الكثير لصيانة مسكنه المؤقت الآخر فى الوطن الأم!!! وأخيراً عاد الى الوطن حاملاً معه أمالاً مدعمة بأموال أو هكذا ظن هو أنها أموال ….واذا بالأموال لا تكفى حتى لتجديد مسكنه”المؤقت” القديم……وأخيراً ظهر الطبيب…لكن اتضح له أنه ممرض آخر جاء لتركيب المحلول فى وريده. استسلم مرة أخرى للمشاهد التى تخرجه من ملل الانتظار…….عندما هبط على أرض الأحلام….الوطن الجديد أخيراً سيعمل فى مجاله المحبب الى نفسه….أخيراً سينعم بالاستقرار فى حياته وسيطرد -والى الأبد- كلمة مؤقتاً من قاموس حياته. هكذا كان الحلم أما الواقع فكان -كالعادة- شىء آخر….غريب فى بلاد غريبة يومها قال لزوجته…سنسكن فى “بيسمنت” بصفة مؤقتة…وسنشترى أثاث مستعمل أيضاً بصفة مؤقتة….وسأقبل أى عمل بصورة مؤقتة الى أن تنصلح الأحوال. ومضت الأعوام…وهو يعمل بصفة مؤقتة ومن سكن الى آخر بصورة مؤقتة…وارتفع مستوى دخله ومعه ارتفع مستوى مصاريفه، وفى نفس الوقت ارتفع ضغط دمه و لكن بصورة غير مؤقتة، لكنه امتلك منزلاً صغيراً “مؤقتاً”….و مع كل هذا فانه حتى هذه اللحظة لم يعمل فى مجال تخصصه الذى أراده ولو مؤقتاً. دخل الطبيب مبتسماً..نظر اليه نظرة فاحصة…ثم بعد فحص سريع قال له الطبيب ” ستقضى معنا كام يوم حتى تتحسن حالتك”….نظر اليه المريض قليلاً ثم سأله ” كام يوم بالتحديد يا دكتور؟” أجابه الطبيب ” ثلاثة و أربع أيام بصفة مؤقتة بعدها نحدد خروجك أو بقاءك بالمستشفى” انتابت المريض نوبة ضحك عارمة بينما نظر اليه الطبيب مستنكراً فتدارك المريض الموقف معتذراً للطبيب ” أنا آسف يا دكتور..أنا باضحك لأنى اكتشفت – بعدما تجاوزت السبعين – اننا بنقضى سنين حياتنا….بصورة مؤقتة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
أبدعت يا مدحت .. حياتنا صعبة وللأسف هذه الصعوبة دائمة وليست مؤقتة .. عاش قلمك وأخضر مدادك.
جميلة جدا يا دوحا وانا قرأتها بصفة مؤقتة لأول مرة وحقراها تانى
على فكرة المريض ده اسمه ايه ؟