في غرفةٍ صَغيرةٍ للمُدَخِنين مُلحَقة بقاعةِ الانتظار الكُبرىَ بمحطةِ القطارات التقيا!
كان الأولُّ يتأبَط كِتاباً، وينفث دُخانَ سيجارهِ الكوبي مُتأمّلاً تصَاعُدَه الحَلزونيّ. والثاني لصَقَ سيجارَته بين شفتيه كأنه لا يعرف إنْ كان سيأكلها أو سيملأ رئتيه بنيكوتينها المسموم!
اضطرّا لتبادل عباراتٍ ريثما ينتهي كلٌ منهما مِنْ آخر نفسٍ يلوّث الاثنين معا: الغرّفة و .. الصَدْرَ!
ودار بينهما الحوارُ التالي:الجاهل: هل بقيَ وقتٌ طويلٌ علىَ موّعدِ وصول قطارِك؟
المثقف: أقل من نصفِ ساعةٍ، لكنني أعْدَدْتُ نفسي بكتابٍ دَسِمٍ آمل أنْ أنتهي مِن نِصْفِهِ قبل وصولي، وأنتَ .. هل سيمضي بك الوقتُ بطيئاً أمْ ستمضي أنتَ به سريعاً؟الجاهل: أما الكتابُ فبيني وبينه خُصُومَة، يكرهني وأكرهه! هل تصَدّق أنني لمْ أقرأ خَمْسَ صَفحاتٍ منذ تخرجْت في الجامعةِ لسنواتٍ طويلةٍ خَلتّ؟ وقطعتُ علاقتي به فور خروجي مِنْ آخر إمتحان في اللجنةِ التي كانت تلهبها خيّمَة تحتضن حرارة الشمس و .. سخونة الأسئلة!
الثقافة ليست كتاباً فقط، فأنا أتثقفُ من التلفزيون، ومن السهر مع أصدقاء الفرفشة على المقهىَ، وأذهب إلى السينما، وأستمع إلى رجل الدين في الحيّ الذي أقطن فيه، ولا يستطيع أحَدٌّ أنْ يُمَيّز بيني وبين قاريءٍ يلتهم كتاباً مع إشراقةِ كلِّ صباح، ويهضمه قبل أنْ يأوي إلىَ فِرَاشِه!
المثقف: هذا زمنُ البؤس والطاعون حيث يتساوىَ العِلمُ بالجهل، والمَعْرفة بالأميّةِ، والكتابُ بالنرجيلةِ، والموسوعة بالمسلسل التلفزيوني، والمكتبة بالغرّزة!
لو استضافتنا فضائية عربية في حِوار عن أكثر قضايا الوطن عُمْقاً، وأشدّها تعْقيداً، فإنك بسهولةٍ بالغةٍ سَترْديني قتيلاً بدماءٍ أثيريةٍ، وغالباً ستنحاز الجماهيرُ إليك، وربما تتلقفك لاحقاً فضائياتٌ حُرّة، ومُسْتقلة، ودينية، وثورية، وخليجية، وتصبح نجْماً لامعاً تمَزّق المراهقاتُ ملابسَك كأنهن أمام تامر حسني، وربما تتلقى طلباً للمساهمةِ في رَسْمِ مُستقبل الأمةِ!الجاهل: ثقافتك تجْعَلك تسْخَر مني، وعالمُ المعرفةِ الذي تعيش فيه، ويعشعش فيك يجعلك تظن أنَّ دورَك في الوطن أكبر من دوري.
في عالمِنا العربيّ الذي تهَيّمِن علىَ أكثره ديكتاتورياتٌ جمهورية، ومَلكيّة، وثوريّة، ورجعيّة، وعلمانية، ودينية، يفسحون المجالَ أمامَ أعداءِ الكتابِ وخصُوم الثقافةِ، بلْ إنَّ ثمانية مِنْ كل عشرة زعماء عرب يقرأون خُطبَهم بصعوبةٍ بالغةٍ، أما قواعدُ اللغةِ فحَدّث ولا حَرَج!
المثقف: لكنني أنا الذي أصنع الكتابَ والفنونَ، وأكتبُ التاريخَ والجغرافيا والعُلومَ!
إذا أردتَ أنْ تعْرف فلا بُدّ أنْ تتلقى المَعْرفة مني، وأنا أتصدر الندوات والملتقيات والمؤتمرات الكبرى.
أستطيعُ أنْ أبهر العالمَ حتى لو صنعت من اللاشيء كلمات منتقاة سابحاً بها في الفراغ، وأنا العقل الذي تستعين به الدولة ليرُدّ علىَ أعدائِها، ويفنِدَّ أكاذيبَ خصومِها.
أنا الذي أكتب للزعيم خِطابَه فيقرأه بشِق الأنفس ولو شرَحْتُ له سبعين مَرّة ما خفيَ عليه في اللغةِ والمعاني.
أنا أفسْرّ لك دينك، وأهَلّهل تفسيرات الجَهلةِ إنْ اقتربوا مِن كتابك المُقدّس.الجاهل: رغم ضخامةِ الأنا في حَديثِك، ونرجسيةِ كل إشارة إلأ أنَّ الحقيقة اختفتْ تماما من كلماتِك المزركشة!
فأنت تصْنع الطاغِيَة، وتبررّ الاستبدادَ، وتعيش في دائرةِ مُغلقةٍ عليكم!
عشراتُ الآلافِ مِنكم في العالم العربي لا يُحَرّكون ساكناً إلا قليلا، وتستطيع حِفنة صَغيرَة مِنْ الجَهَلةِ مِثلي أنْ تعيد الوطنَ كله إلىَ الخلفِ قبل يغشي الليل النهار!
هل تعرف شاعرَكم الكبيرَ الذي يُصْدِر مِجلة شهرية أدَبية في مصر؟ إنه يطبع أربَعة آلافِ نسْخةٍ، ويبيع منها 25 نسخة فقط، أيّ أقل من نسخة واحدة لكل محافظة!
لو أنني أصدرتُ مجلة تهتم بالملابس الداخلية لفتيات الشاشة الفضية، ونجمات الفن السابع، فلا تتعجب إنْ نفدَتْ أعدادُ المجلةِ قبل أنْ يفرشها علىَ الأرض بائعُ الصحفِ!
لو أنني أنشأتُ موقعاً أو أحَدَ المنتديات علىَ النت، فلن تستطيع أنت أنْ تنشر إلا ما يروق لي، ولو جادلتَ أو قدّمْتَ احتجاجاً فسينهشك الأعضاءُ الآخرون.
في هذه الحالة فأنا وزملائي الجهلاء وأنصاف الأميين نحَدِدّ قواعدَ النقاش، ونفسّر علىَ هوانا الدنيا والدين، ونسمح لأجهزةِ الأمن أنْ تجوس مع عملائِها في الموقع، ولأباطرةِ الفتاوىَ الفجّةِ أنْ يلعبوا بعقول الشباب، ويقنعونهم بعبقرية التخلف!
في عالمِنا العربيّ يظل البقاءُ لي، فأنا ضابط شرطة، وعسكري، ومزارع، وطالب، وخرّيج جامعة، وموظف.
وأنا أيضا عضو برلمان، وأحيانا أضع علىَ بابِ شقتي لقب دكتور رغم أنني لا أعرف اسمَ عاصمةِ موريتانيا، ولا مساحة مصر أو اسمَ مدينةٍ ساحليةٍ سورية، ولا أعرف أسماءَ الدول التي تطل حدودُها على تركيا!
أنا الأغلبية الغالبة، وأنت الأقلية المهزومة!
لو أنني في ندوةٍ لك تلقي علىَ مَسامع الحاضرين حَديثاً عن فلسفةِ سبينوزا، وكتابات كافكا، وتفسيرات وليم جيمس النفسية، وروائع هربرت ماركوز، ولامنتميات كولن ولسون، وتشرح علاقة هاملت بأمه، وتقتطع فقرات من قصة الحضارة لولّ ديورانت، ويبدو منطقك كأنك تلميذ لكانط، ثم قمت أنا بتسفيه حديثك علناً، وانتقاد آرائك، وزعمتُ أنَّ أقوالك غامضة، فإنَّ ثلثي الحاضرين سينحازون لي ولا يعرفون أن مكتبة بيتي ليس بها غيرُ عددين من مجلة حواء، ورواية واحدة لشارلوك هولمز!
أنا لا أمثل خطراً علىَ السلطةِ، ولا يعبأ بي رجالُ الأمن، وأقضي عمري كله مع أسرتي دون أن أغيب يوما واحداً في غيابات السجن مثلك.
لو تولىّ حِمارٌ قيادة الدولةِ فحياتي ستستمر دون أنَّ يعتريها أدنىَ تغييرٌ، ولعلي أصفق له، وأمتدح في عبقريته، وأضمن لنفسي حياة هانئة وآمنة.
المثقف: ومع ذلك، ورغم حركةِ التقدم البطيئةِ في عالمِنا العربي فسيظل وجودي هو الذي يحميك، فأنا القوة غيرُ المؤثرة ظاهرياً، وأنا التغييرُ الذي لم يأت بعدُ، وأنا الماردُ المَحْبوسُ في القمقم، وأنا أصِف للعالم كله ولجمعيات حقوق الإنسان ما يفعله بك الطغاة رغم ادّعائِك أنك حُرّ، وسعيدٌ، ومواطن مطيع.
أنا أقوم بتعليم أولادِك، وأنت تحَرّضهم علىَ الجهل.
أنا أحاول تخليصَ رقبتِك من التعصّب، والتشدّد، وأشرح لك حقوقك وواجباتِك، وأكشف المتلاعبين بعقلِك في المنابر الإعلامية والدينية، ولجان الاقتراع، وبورصات المال، و ….
أنا أحترق من أجلِك، وأنخرط في المعارضة لتحريرك، وحتى لو لم أكن معارضاً فلا تعاتبني لمعرفتي، ولا تناهضني لاختياري الكتاب صديقاً، وأنيساً، ومُرشِدَاً!
الجاهل: وأنت تحتقر جهلي، ولا تحاول أنْ تجد لي عُذراً، ولا تتفهم كراهيتي للثقافة في وطن يرفع من شأني، ويَحُط مِنْ فِكرك.
أنت لم تنتفع بثقافتِك وصعدتَ إلى برج مشيّد فلا يسمع صياحَك أحدٌ، وأنا وجدتُ بجهلي الطريقَ مُعَبّدا، والأبوابَ مفتوحة، والمناصبَ بجانبِ السلطةِ فاتحة أذرعها لي.
أنت وأنا ضحيتان ولو كنا علىَ طرفي نقيض!
سيجارُك وسيجارتي لا يلتقيان إلا في بيئة مُلوّثة، ومعرفتُك وجهلي يتصارعان دون معرفةِ الأسباب، وغرورُك وفراغ عقلي يتنافران، وصمْتك وسلبيتي يعملان لصالح الاستبداد.
المثقف: وأنا غير واثق أنك تفهم حديثي، وعلىَ يقين أنَّ التلاعبَ بك أسهل من اليو يو، وأنَّ الجماهيرَ التي تنتمي أنت إليها تعين الظالمَ، وتعَرّي قفاك لصاحب الكفّ الأغلظ!
بل إنَّ جهلك أكثر غروراً من معارفي كلها، وكراهيتك للكتابِ والثقافة والعلوم والآداب جعلتك في الجانب المُعادي لتقدم الأمة، وتطور الوطن، وتحرير الأرض.
أنت تصُمّ أذنيك، وتزدري أقوالي، وتعَمّم ثقافة الفهلوةِ، وتضم إليك في كل التجمعات خصومَ خير جليسٍ في الزمان.
أنت تظن أنَّ صُعودَك لي فيه مَشقة، وأنا على يقين من أن نزولي إليك تنازل يضرّ أكثر مما ينفع.
نحن نتفاوض على مكاسب لكل مِنّا، والسلطة تراقبنا ضاحِكة، فكرّباجُها لا يفرّق بين ظهري وقفاك!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج