د.ماجد عزت إسرائيل
مع بداية حكم محمد (1805-1848م) كانت الأديرة والكنائس والمؤسسات الخدمية الكنيسية في حالة يرثى لها،حيث كان الأقباط الذين في مناصب رئيسية بالدولة موضع استنزاف مستمر لأموالهم وكلما احتاج الباشا إلى المال، كان يأمر”جرجس الجوهري” رئيس الشئون المالية بالدولة بجمعه من أغنياء الأقباط
فإذا تأخر حبسه مع جميع موظفيه، لذلك انقطع توفير الأموال لهـذه المؤسسات فتراجع دورها الدينى
والاجتماعى، بالإضافة لتعرضها للاعتداء والسلب و لنهب.
وتزامن تولية “محمد على باشا”(1805-1848م) مع انتخاب البابا بطرس السابع الجاولي
(1809- 1852م) البطريرك رقم(109) فى تاريخ البطاركة، والبابا بطرس الجاولي
من مواليد قرية الجاولى التابعة لمركز منفلوط،محافظة أسيوط، ترهبن في دير القديس أنطونيوس
بالبرية الشرقية وكان اسمه العلماني “منقريوس”
قبل الرهبنة، تعمق في العبادة والنسك والطهارة كما تفرغ لمطالعة الكتب الكنسية
وتزود بالعلوم الطقسية واللاهوتية، ورسم قسا في دير مرقوريوس بصعيد مصر،ثم رقى لدرجة القمصية
ورشح مطراناً بناء على طلب ملك الحبشة “إجوالا سيون”Egwale Seyon من “محمد على الباشا”
أن يأمر البابا”مرقس الثامن” (1796-1809م) البطريرك(108) برسامته لجمعه ما بين الدين والسياسة
إلا أنه في وقت الرسامة لم يقلده البابا”مرقس”علي أثيوبيا بل جعله مطرانا علي بيعة الله المقدسة وسماه “ثاوفيلس” ورسم بدلا منه الأنبا “مكاريوس الثاني” مطرانا لمملكة أثيوبيا في سنة 1808م .
ولما تنيَّح( توفى) البابا “مرقس الثامن” رقم(108)(1796-1809م)
أجمع الأساقفة مع أراخنة الشعب علي أن يكون خليفة له، فرسموه بطريركًا في الكنيسة المرقسية
بالأزبكية بعد ثلاثة أيام من نياحة البابا “مرقس الثامن”،ودُعِيَ إسمه “بطرس السابع”
واشتهر باسم “البابا بطرس الجاولي“، وكان أبًا وديعًا متواضعًا حكيمًا ذا فطنه عظيمة
وذكاء فائق وسياسة سامية لرعاية الشعب والكتب المقدسة، وقد وضع كتابًا قَيِّمًا دافع فيه
عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وتعاليمها، كما قام بتزويد المكتبة البطريركية بالكتب النفيسة.
وأدى تطور العلاقة بين البابا بطرس الجاولي (1809- 1852م) وبين “محمد على باشا”
إلى انتعاش الكنيسة روحانياً ومادياً، بعد ما سمح لأغنياء الأقباط بإغداق الأموال عليها
فتم تجديد الكنائس في الوجهين القبلي والبحري،وعم السلام والمحبة البلاد
وخاصة بعد حادثة شفاء ابنته “زهـرة” على أيدى أحد الرهبان، بالإضافة إلى استتباب الأمن
في البلاد والوادي والقضاء على الاعتداءات على الأديرة والكنائس والمدارس
فزاد عدد الأساقفة والقمامصة والشمامسة ورهبان الأديرة .
ومن الجدير بالذكر، في عهد المتنيح قداسة البابا بطرس الجاولي حدثت معجزة النور المقدس
بمدينة القدس
فعندما قـام “إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا “بفتح بـلاد الشام – فلسطين وسوريـا ولبنان حالياً
واستولى على مدينة أورشليم القدس، بَلَغَه أنَّ النور يظهر في ليلة عيد القيامة على يـد بطريرك
الروم الأرثوذكس في القدس. فلم يُصدِّق إبراهيم باشا هذا الكلام. ودعا بشدَّة البابا بطرس الجاولي
إلى الحضور لمدينة القدس لإقامة احتفال عيد القيامة، ويُباشر بنفسه خدمة خروج النور مـن
القبر المقدَّس الذي دُفِنَ فيه السيد المسيح، كما كان يفعل بطاركة الروم هناك كل عام.
وهكذا لبَّى البابا دعوة إبراهيم باشا والي الشام، وسافر إلى القدس، وهناك تقابَل مـعه، وأَطْلَعَه على حقيقة الأَمر.
ومِن حيث إنه سيترتَّب على تعدِّي البطريرك القبطي على حقوق بطريرك الروم في القدس
عداوة كبيرة بين الكنيستَيْن القبطية والرومية في المدينة المقدَّسة؛ قابَل البابا بطرس ”إبراهيم باشا“ واعتذر له.
فقَبِلَ الباشا اعتذار البابا، ولكنه اقترح عليه أن يكـون مُصاحِباً لبطريـرك الروم في الصلاة.
وكـان إبراهيم باشا يرتاب في حقيقة الأَمر، أي ظهور النور في القبر المقدَّس وخروجه منه في يوم سبت النور.
وقد ورد في سيرة البابا بطرس إنـه كان خائفاً من عاقبة تأخير انبثاق النور، وما سيترتب على ذلك مـن سوء العاقبة بعد ذلك! فأخـذ البابا يستغيث، في صلواته الحارَّة، بقدرة الرب يسوع المسيح.
وكانت كنيسة القيامة في ذاك الوقت قد غصَّت بالجماهير التي أتت من كل مكان، حتى تضايق الناس من شدَّة الازدحام.
وأصدر الباشا أوامره بـإخراج الفقراء إلى خـارج الكنيسة، ليقفوا في الفضاء الكبير خارج كنيسة القيامة
ودخل إبراهيم باشا مع بطريرك الروم وبابا الإسكندرية إلى القبر المقدَّس.
وابتدأ البطريركان بالصلاة، ولما حـلَّ الوقت المعهود، انبثق النور مـن القبر المقدَّس بصورة رهيبة
بشكل أرعب الباشـا (الذي كـان واقفاً خلف عمود رخامي)، حتى استولى عليه الذهـول والانـدهاش
وأَخَذَ يصرخ مُردِّداً هـذه الكلمات:”أمان بابـا” “أمان بابا”.
وكـاد أن يسقط على الأرض، لدرجة أن تلقَّاه البابـا بطرس في حضنه إلى أن أفاق مـن تأثير جلال المنظر ورَهبته.
وأمَّا الفقراء الذيـن وقفوا خـارج كنيسة القيامة، فكانوا أسعد حظّاً مِمَّن كانـوا بداخلها، لدرجة أنَّ أحد أعمدة باب الكنيسة الغربي انشقَّ وخرج لهم من الشقِّ النور المنبثق مـن داخل الكنيسة، فتباركوا منه.
كما ظهرت آثار نفس قوة النور المقدَّس على أحد الأعمدة الرخامية داخل الكنيسة نفسها، إذ انشقَّ من أعلى إلى أسفل، وظهر فيه آثار الحريق.
وعقب انتهاء الاحتفال بعيد القيامة المجيد، عـاد البابا بطرس الجاولي مُكرَّماً إلى الدار البطريركية.
وظل البابا في عطائه للكنيسة القبطية حتى تنيح وترك عالمنا الفاني في(5 إبريل 1852م).
للكنيسة القبطية حتى تنيح وترك عالمنا الفاني في(5 إبريل 1852م).