د. حامد الأطير
إن الاستهانة بالقانون وانتشار الفوضى والعنف والبلطجة والجرائم الغريبة والشاذة التي تجتاح الشارع المصري أصبحت من الأمور المرعبة التي تدمي قلوب المصريين وتستوجب التوقف أمامها بالدراسة وتستلزم وقوف الدولة -حكومة وشعب- بشدة وحزم لوقف هذه الظاهرة التي تنامت وازدادت بشكل مريع.
إن محاربة الدولة للجماعات الدينية المتطرفة الطامعة في الاستيلاء على مقاليد السلطة والسيطرة على إرادة الشعب لهو من أولويات مهامها وواجب حتمي عليها لتحمي الشعب من شرور وتطرف تلك الجماعات الإرهابية التي لا تتورع عن القتل والحرق والتفجير والتدمير وسفك الدماء، لكن يجب ألا تستحوذ الحرب ضد هذه الجماعات الآبقة المناوئة على جل اهتمام وإمكانيات الدولة، ويجب ألا تأتي هذه المواجهة على حساب بسط الأمن والأمان للمواطن
وحمايته من الأخطار والمخاطر الأخرى المحدقة به، فخطر هذه الجماعات المتطرفة وإن كان هو الأهم والأولى بالمحاربة والمواجهة لكنه ليس هو الخطر الوحيد، لذا لا يجب تغليب الأمن السياسي على الأمن الجنائي بأي حال من الأحوال، لأن الالتفات عن الأمن الجنائي
أدى إلى انتشار مظاهر البلطجة والعنف والفساد ورواج المخدرات وارتكاب الكثير من الجرائم والآثام بلا خوف أو وجل.
من حق المواطن المصري شارع آمن وهادئ وخال من المجرمين والبلطجية والقتلة واللصوص ومن الضجيج والضوضاء، ومن حق المواطن رصيف جيد يسير عليه بيسر وسلاسة، ومن حق المواطن شارع بلا إشغالات تغتصب أرصفة المشاة وتحتل نهر الطريق، ومن حق المواطن أن تقوم الدولة بتسيير دوريات شرطة راكبة في كل الشوارع والميادين طوال 24 ساعة
لتمنع الجرائم قبل وقوعها أو استفحالها ولتبث الطمأنينة في النفوس، فالمؤكد أن وجود هذه الدوريات سيُحدث فرقاً واضح وملموساً، فليعد الشرطي الراكب دراجة نارية بدلاً من الحصان وليعد كذلك الشرطي الراجل ليجوبا الشوارع ذهاباً وإياباً، ومن حق المواطن أن يستمر عمل كافة الجهات الرقابية على مدار اليوم في ورديات أو مناوبات متواصلة دون التقيد بساعات عمل محددة وذلك من أجل القضاء الفوري والآني على أي مخالفات أو جرائم من أي نوع.
ومن أسف أن الأمن يتحمل أخطاء وخطايا السياسيين، وكثيراً ما يكون الحل العاجل والأسهل لمعالجة هذه الأخطاء هو اللجوء إلى المواجهة الأمنية رغم ما لهذا من خطورة بالغة وأثر سىء، لما يولده التدخل الأمني من حساسية في الصدور وما يسببه من عداء ظاهر أو خفي تجاه الأجهزة الأمنية التي من المفترض أن يشعر المواطن تجاهها بالامتنان والعرفان باعتبارها الحامية له والأمينة عليه.
إن الأمن غالباً ما يتحمل فشل السياسات الاقتصادية والآثار السلبية للتغيرات الاجتماعية الناتجة عن هذه السياسات، والتي من أبرزها الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي وغياب العدالة والمساواة وزيادة نسبة الفقر والعوز وانتشار الفساد، الأمر الذي يؤدي إلى تذمر وثورة المواطنين ولجوئهم للعنف في الكثير من الأحيان، كذلك يتحمل الأمن تبعات الظروف السياسية السلبية التي تتمثل في استبداد الحاكم وأنظمة الحكم وممارسة القهر
وكبت وسلب الحريات وسد أو تضييق آفاق مشاركة المواطنين في القرارات السياسية وحرمانهم من مراقبة هذه القرارت وحرمانهم من التعبير عن أرائهم.
ويتحمل كذلك فشل منظومات التعليم والصحة! فقد أصبح لزاماً عليه تأمين الجامعات وقت الدراسة والمدارس وقت الامتحانات وذلك لمنع المواطنين من اقتحام اللجان لتمكين أبنائهم من الغش ومنع الطلاب من التعدي على مسئولي اللجان! كما أن هناك مطالبات بإقامة نقطة شرطة في كل مستشفى لمنع أهل المرضى من التعدي على الأطباء والعاملين!
كذلك يتحمل الأمن مثالب القضاء المتمثلة في بطء إجراءات التقاضي وبطء الفصل في القضايا والمظالم، الذي يترتب عليه تأخر تحقيق العدالة، هذا التأخر وهذا البطء يدفع المواطنين دفعاً نحو العنف والبلطجة للحصول على حقوقهم بأنفسهم وبالقوة، ولا يفوتنا هنا أن نؤكد بأن تأخر العدالة في حد ذاته هو ظلم بين.
كما أن الأمن يتحمل أيضاً فشل السياسات التربوية، ويدفع ضريبة غياب دور البيت والمدرسة، بحكم غياب وانشغال الآباء والأمهات بعملهم ولضعف دور المدرسة والمعلمين في التأثير الإيجابي على الطلاب الذين انصرفوا عنها واستبدلوها بالتواجد في الشوارع والكافيهات والسناتر وتحولوا إلى مشاغبين من الدرجة الأولى بعد أن حلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي محل البيت والمدرسة وصارت هي المربي والموجه والمؤثر الأول في سلوكيات الشباب!
لأن معظم المواد الإعلامية عنيفة وبذيئة تدعو إلى البلطجة والانحراف وسحق القيم والمبادىء، لقد أفسدت هؤلاء الشباب وأكسبتهم قيم سلبية لا حصر لها ولا عد وحولت غالبيتهم إلى بلطجية ومدمنين ومنحرفين، ولا يصيبك العجب حين تعلم أن نتيجة الاستقصاء الذي أجري على عدد من المدمنين أظهر أن 70% من المدمنين قد ذهبوا إلى تعاطي المخدرات وتعلموا طرق تعاطيها من الأفلام والمسلسلات! وقس على ذلك ما نراه من اندفاع الشباب نحو القتل وإراقة الدماء والتعدي الجسدي واللفظي على الآخرين والتعدي على الحرمات وخيانة الأهل والأوطان، واندفاع الشابات نحو التعري والتحلل والتفسخ والافتخار باحتراف الرقص الماجن في المواخير الليلية واستسهال العلاقات المحرمة واستحلال ممارسة الجنس خارج إطار الزواج كصدى للإعمال الفنية التي تعظم قيمة هذه النماذج وتروج لمثل هذه القيم الهدامة.
إن دراسة الظواهر السلبية لإيجاد الحلول العلمية والمجتمعية والتشريعية والسياسية وعدم الاعتماد على المواجهات الأمنية فقط هو الطريق الصحيح والأمثل للتغلب عليها، ولضمان سلامة المواطن في نفسه وعرضه وماله ولتجنيبه المخاطر والتهديدات، يجب على الدولة توفير وتحقيق الأمن بمفهومه الشامل عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً وتعليمياً وفكرياً وبيئياً.