مختار محمود
جلسَ الشيخُ الثمانينىُّ على كرسىِّ التلاوة في بيتٍ من بيوتِ الله العامرةِ بالقاهرة، وتأهَّبَ لقراءةِ ما تيَّسرَ له منْ آياتِ اللهِ البيَّناتِ ضمنَ شعائر صلاة الجُمعة المنقولةِ تليفزيونيًا وإذاعيًا.. بدا القارئُ الكبيرُ مُرهَقًا قبلَ أن يشرعَ في التلاوة.. وعندما استعاذَ باللهِ منْ الشيطانِ الرجيمِ وقرأَ البسملةَ، بدا صوتُه مُحشرجًا، والنَّفَسُ مُتقطعًا، وتلعثمَ الرجلُ وارتبكَ غيرَ مرَّةٍ، فخرَجَ الأداءُ في صورتِه النهائيةِ ضعيفًا باهتًا.
وفيما كان غيرى مُتأففًا كنتُ أنا مُشفقًا على القارئ الكبير.. خشيتُ أنْ يلمزَه مُندفعٌ بكلمة، أو يغمزه غشيمٌ بحرفٍ.. وبعدَ التلاوة صعدَ الخطيبُ إلى المِنبر ليُلقى خُطبة الجمعة.. لم يكنْ الثانى بأفضلَ حالًا منْ الأول. الخطيبُ الطاعنُ في العمر بدا مُرهقًا أيضًا، خلطَ الحديثَ الشريفَ بالقرآن الكريم، ووصف حديثًا ضعيفًا بأنه “صحيحٌ” والعكس. نسى مراتٍ وتلعثم أخرى وسطَ همهماتِ الحضور.
وعندما أمَّنا في الصلاةِ أخطأ ولحَنَ وارتبكَ. وبعدَ الصلاةِ لم يكُفْ نفرٌ من المصلين ألسنتَهم عن نقدِ القارئ والخطيب، فيما واصلتُ إشفاقى “الصامتَ” عليهما.. صلاةُ الجمعةِ المنقولةُ تليفزيونيًا وإذاعيًا لا تقتصرُ فائدتُها على من يصلونَ بالمسجد فقطْ، بل يمتدُّ أثرُها إلى منْ تجبرُهم الظروفُ على الصلاة في البيت أو في العمل أو في المستشفى، فضلًا عمَّن هُم على سفرٍ، ومنْ لا يُصلُّون أصلًا ولكنْ قد يتصادفُ متابعتهم لها، فلماذا لا تولى الجهة المختصة في “ماسبيرو” اهتمامًا جادًا باختيار العَناصِر الفاعلة في شعائر الصلاة، مُذيعًا وقارئًا وخطيبًا؟
مذيعًا مُفوَّهًا قابضًا على لغته دونَ تهتهةٍ كما يحدثُ حاليًا بسبب سياسة “الدور”، يتلو على مُشاهديه ومُستمعيه موعظة سريعة أو نادرة من النوادر، وقارئًا مُبدعًا مُستوعبًا فنونَ التلاوة وعارفًا دروبَها، ومُتحكمًا في صوته وأدائه، وخطيبًا بارعًا مُتجددًا ومُعاصرًا يجذبُ القلوبَ والأسماع إليه ويُعلِّمُ الناسَ ما يجهلونه.
شعائرُ صلاتى الجُمعةِ والفجر والمُناسباتُ الدينيةُ المختلفةُ، والأمسياتُ الدينَّيةُ التي تذاع يوميًا عبر أثير إذاعة القرآن الكريم لا يجبُ أنْ تكونَ “عملًا روتينيًا نَمَطيًا كلاسيكيًا بلا روحٍ أو حياةٍ”.. الدقَّةُ في الاختيار يجبُ أنْ تكونَ حاضرةً بقوةٍ، ولا يُتركُ الأمرُ للعشوائية والمجاملاتِ الرخيصة و”سياسة الدور”، وما أكثرَها في “ماسبيرو”.
معلومٌ أنَّ الأجورَ التي يحصلُ عليها القارئُ في مثل هذه المناسباتِ ضعيفة جدًا، وأحيانًا يتنازلُ عن أجره للفنيين والعمال، ولكنَّ القُرَّاءَ يعتبرونَها “ركنًا أصيلًا” في الدعاية المجانية لهم في سوق مشاهير القراء، ومن ثمَّ رفع أجورهم إلى أرقام فلكيةٍ.
هذه الفعالياتُ يجب تحريرها من أيدى من أثبتوا الفشلَ والعجزَ، إذا كانتْ هناك رغبةٌ صادقةٌ في تجديدِ الخطاب الدينى.. هذه الفعالياتُ ينبغى أنْ تكونَ جزءًا أصيلًا ضمن آلياتِ هذا التجديدِ المُرتقب الذي نسمعُ عنه ولا نراهُ كما “الشبحِ”، ويتفرَّقُ دمُهُ بينَ جهاتٍ مُختلفةٍ، تكتفى بتبادل الاتهاماتِ فيما بينها. في “ماسبيرو”.. لماذا يغيبُ الكمالُ عن أعمالِه.. ولماذا تبدو الجملة.. ناقصة دومًا؟