الخواجة
29 أبريل، 2018 مقالات واراء, منوعات
لازال الشارع يحمل نفس الاسم، شارع الاشجار كان اسماً على مسمى فبالفعل كانت الاشجار تمتد على جانبيه فى تناسق بديع وكأنها تصطف فى استقبال زائرى الشارع الجميل..
كان عمال البلدية يأتون فى مواعيد محددة من العام حيث يهذبونها كيفما اتفق ويتركونها على حالها لتزين شارعنا الطويل.
لا يزال الشارع يحمل نفس الاسم، لكنه لم يعد اسماً على مسمى فالاشجار المسكينة تُرك ما تبقى منها مُهملاً وكأنه لم تمتد يد لها بالعون منذ زمن طويل. انه شارعنا القديم حيث تربينا ونشأنا وكان شارع الاشجار ينتمى لضاحية هادئة تبعد عن وسط المدينة باميال لكنه – ومنذ سنوات ومع ما يسمونه بالامتداد العمرانى- صار شارعنا الهادىء فى قلب المدينة، استفاد الكثيرون من هذا التغيير الذى ضاعف من قيمة الاراضى والمبانى بشارعنا الهادىء او الذى كان هادئاً. جالت عيناى فى المكان الذى تغيبت عنه لسنوات، جالت عيناى لتجتر ذكريات الطفولة والصبا…
نظرت الى الركن الايسر من الشارع حيث بيت الخواجة “رينيه” الصديق الصدوق لجدى ذلك البيت الذى كانت رؤياه تفتن عيوننا صغاراً، كان الخواجة رينيه يعتنى بحديقة منزله بنفسه فكنا نراه -قبل ان يذهب الى محل البقالة الذى يملكه بنفس الشارع- وهو يقص الحشائش او يروى احواض زهوره وكثيراً ما رآنا -نحن الاشقياء الصغار- ونحن نحاول تسلق سور حديقته لنقطف ما تدلى من ثمار شجرته المطلة على الشارع والحق انه ما كان ينتهرنا بل كان ينظر الينا مبتسماً وهو ينادى على من تسلق السور منا بلهجة عربية مكسرة “على بابا” فى اشارة الى قصة على بابا التى صارت فيما بعد اسطورة غنائية بالاذاعة المصرية
حتى تمنى كل واحد منا ان يصبح على بابا فى يوم من الايام. افقت من ذكرياتى على تلك البناية الشاهقة التى حلت محل بيت الخواجة…افقت من ذكرياتى لاجد ان بيت الخواجة صار عمارة شاهقة الارتفاع، افقت على حسرتى لجمال صار قبحاً. عدلت من جلستى كى لا تواجه عيناى الشمس بالكافيتيريا التى كانت مقهى صغير يجلس فيه جدى مع الخواجة رينيه يتسامران ويحتسيان الشاى ومثلما كان يصطحبنى جدى كان الخواجة رينيه يصطحب ايضاً حفيده الذى كان يأتى بكرة من الجلد كنا نتقاذفها فيما بيننا ونلهو سوياً طوال جلسة جدى مع الخواجة. كبرنا والتحقنا بالمدرسة الابتدائية الوحيدة بحينا واقتربت اكثر من اكرم وكنت احمد الله انه يتكلم مثلى تماماً وبلغة عربية سليمة وليس مثل جده. كنا – انا واكرم – من ضمن المتفوقين وان تميز اكرم عنى فى اجادته للانجليزية اكثر منى
ويرجع الفضل فى ذلك الى جده الذى كان لا يستغنى عن جريدة الايجيبشيان بوست والتى تصدر بالانجليزية والحق اننى استفدت كثيراً من اكرم فى فهم اللغة الانجليزية والارتقاء بمستواى. كنت اندهش عندما ارى الخواجة رينيه فى محل البقالة يفتح الراديو ويستمع بشغف للاغانى المصرية سواء لام كلثوم او لعبد الحليم حافظ بل
وعلمت ايضاً انه يعشق آلة العود الشرقية الاصيلة لكن جدى ازال دهشتى لما اخبرنى ان الخواجة رينيه وقد حضر الى مصر ولم يبلغ السابعة وانه اكتسب كل عادات المصريين الايجابية منها والسلبية وقد ضحك منى جدى عندما سألته عن ماهية عاداتنا السلبية لكنه حكى لى ايضاً كيف رقص الخواجة رينيه فى الشارع عند اعلان الثورة المصرية وخروج الانجليز من مصر وكيف انه قام بتوزيع المرطبات مجاناُ على سكان الشارع ابتهاجاً بهذا اليوم. كان الخواجة رينيه مصرياً حتى النخاع
وقد ورث ابناؤه واحفاده عنه الوطنية المصرية الاصيلة. لهذا لم يكن غريباً ان ارى اكرم وهو يجاورنى فى حصة الاناشيد مردداً مثلى اغانينا الوطنية. صار اكرم صديقى الاقرب وكانت صداقتنا وعلاقتنا مضرب المثل فى شارعنا ولم يكن مستغرباً لاحد رؤيتى وانا ادخل تلك الكنيسة على ناصية شارعنا لالتقى اكرم حيث نخرج سوياً عقب انتهاء الصلاة لنقضى بقية اليوم معاً ولا انسى بالطبع هواية امى المحببة وهى تنظر من الشرفة يوم الاحد
حيث كانت تقتبس وتتنافس مع نساء عائلة الخواجة رينيه فى ارتداء آخر صيحات الموضة وبالفعل كانت امى وسيدات عائلة رينيه من اشيك وارقى سيدات الشارع وكانت الكثيرات من السيدات يأتين لامى طلباً لمشورتها فى تفصيل او شراء ملابسهن نظراً لذوق امى الراقى.
ظل حال شارعنا كما هو حتى شاركنا انا واكرم بعد تخرجنا فى حرب اكتوبر التى اصيب فيها اكرم اصابة اعجزت ذراعه عجزاً جزئياً نال بسببه تكريماً ومبلغاً رمزياً من الدولة وبالرغم من خروجى من الحرب بلا اصابات الا اننى جلست على المقهى مع اكرم حيث لم تتوفر لى وظيفة مناسبة اما اكرم – المحظوظ – فقد تفرغ تماماً لادارة بقالة جده الذى كان قد رحل عن دنيانا بعد رحيل جدى بعام واحد…
ولم اكن ادرك ان برحيل الجدين ورحيل زمانهما رحل ايضاً الزمن الجميل. كنت جالساً مع اكرم فى بقالته اناقشه فى فكرة الهجرة التى داعبت خيالى منذ زمن عندما لفت انتباهى ان الزبائن ينادونه بالخواجة…ضحكت قائلاً “هل ورثت لقب الخواجة عن جدك” لم يشاركنى اكرم دعابتى بل عبس وجهه وهو يؤنبنى على عدم ملاحظتى اذ انهم يلقبونه بالخواجة منذ زمن فلو لديك الوجه الابيض والعيون الملونة والاهم من هذه وتلك..
العقيدة المختلفة عندئذ فانت مستحق للقب خواجة من وجهة نظرهم!! لم اعتد كثيراً بكلمات اكرم وحاولت قدر امكانى تهوين الامر وتصويره باعتباره افراط فى الحساسية من جانبه..لكنى كنت مخطئاً، لا اريد ان اقول باننى كنت غبياً فقد ادركت ما ادركه اكرم ولكن بعد سنوات طوال فقد هاجرت من وطنى وبقى اكرم فى الوطن باع بقالة جده بعد ان قاطعه الكثيرون لانه اجنبى او خواجة…لم يستسلم اكرم فقد باع بقالة جده وافتتح شركة خاصة به وعمل فى مجال السياحة ونجح مشروعه الجديد…
ثم مرت اعوام تغيرت فيها هوية الوطن وثار الشعب على حاكم رأوا فيه فساداً وهذا حقهم لكن الشعب الذى بدل من هويته لم يستطع ان يحدد البديل فكانت الفوضى لكن الغريب بل والمذهل ان قادة الفوضى كلهم والذين كانوا من اصحاب البشرة السمراء والعيون الغير ملونة…سرقوا المتاجر ونهبوا متاحف الوطن وثرواته وليس من بينهم خواجة واحد…
سألت عن اكرم صديقى فلم يتذكره احد لكنى عندما سألت عن الخواجة عرفت انه استشهد وهو يدافع عن احد المتاحف التى نهبها الوطنيون!!…لم اتعجب لحال الوطن لكنى تعجبت لحال اخوتى فى الوطن..لكن تعجبى كان يزول عندما اتذكر ان نفس هذا الشعب قد بدل من ملابسه وارتدى ملابس غريبة عنه ثم غير من افكاره وتبنى افكاراً مستوردة ثم بعد ذلك نظر ابناء البشرة السمراء لاخوة الوطن ليرونهم مختلفون عنهم وكأنهم هم الذين تغيروا فينفرون منهم، وتذكرت الخواجة رينيه
وهو يبتسم وينادينا بعلى بابا وادركت اننا سقطنا يوم جعلنا من على بابا الذى لم يكن سوى لص بطلاً اسطورياً..غادرت الكافيتيريا وانا اترحم على اكرم الخواجة المصرى الوطنى ذو البشرة البيضاء والعيون الملونة.