Oliver
إنطاكية و الإسكندرية كنيستان شقيقتان في التاريخ في الإيمان في الآلام في الأوجاع في الدموع و الدم.
كانت المذابح تتوالى في جرمانا والدماء تسيل في البطرسية.وتتفرق الأشلاء و العائلات و البلاد.
هذا صليب الشرق يحمله مسيحيو الشرق أينما راحوا.
جرمانا المدينة التي لا تنام صارت مرتعاً للخفافيش السوداء
و إنطفأ شرق دمشق بخراب جرمانا و الغوطة..كان التفجير والحريق في كل أرجاءها وكانت داعش تبيع اثاثات بيوتهم قدام أعينهم و تأخذ بناتهم ليصيروا عاملات في منازلهم الشريرة و يتكسبون من وراءهم.
أخذت إمرأة متلحفة في نقاب لتهرب ببناتها الصغار وزوجها منحني الظهر لا يبارك ولا يلعن بل يدمع حين يفتح عينيه فكل ما حوله يضخ الدموع فى عينيه الحمراويتين من البكاء و عدم النوم والإجهاد.
الشمس الغائبة تظلل ظلامها عليهم ليتخفوا به.المرأة تجري حيناً ثم تقف فجأة حين يشير لها زوجها. الشبيحة يتجولون والبيوت مستباحة بمن فيها و ما فيها.
سولافا سابا و زوجها و طفلتيها يتكوران في الأرض تعثرا من الحجارة.
وعينا الرجل الدامع لا تلاحق على مساندتهم و مراقبة الطريق في ذات الوقت.
يتركهم يتعثرون مغبرين بالتراب تسندهم الأم المتورمة من كثرة السقطات والبنتين ترتجفان.
ورسل الموت في جرمانا يتبخترون مثل جليات فوق التلال.الطلقات تمرق فلا تعرف من أين و إلي أين.
عليك أن تجرى ثم تتوقف لعل سعيك يكلل بالنجاح وتصل إلى أرض ما بعد سوق الحمصى فالتى خلفها أكثر أمناً
وإن إمتلأت بالكلاب التي ‘مسعرت بعد أكل جثث البشرلكنها رغم هذا أرحم من الشبيحة التى تأكل أكباد الأحياء.
إقتربت العائلة و هي تنزف في القلب والوجه .
ظهر المدق المتهدم بجوار سور سوق الحمصي.
يتأخر زوج سولافا قليلا ليلتقط أنفاسه.
وتواصل الأم و هي تختطف طفلتيها المسيرة.يقوم زوجها و ينادي .
صوت طلقة يسمع صداها في الخلاء.
يجلس الرجل كما وقف منحنياً.يسيل منه ما تبقي من دم.تناديه سولافا فلا يرد.
تعود متلهفة فتجد زوجها قد سافر حيث الأمان والسلام.
تجره نحو كومة حجارة.تغطيه برداءها.تسأل الطفلتان ماذا حصل.تجيب سولافا أبوكم لا يستطيع المشي الآن.
لقد إرتاح قبلنا هيا نكمل.
وخرجت سولافا من خلف كومة الحجارة بعد أن وارت زوجها بعض التراب.
تواً جائت الطلقات ثانية.
سقطت طفلة ثم الأخري .ما هذا الجحيم.
صرخت في الخلاء يا رب إرحمنا و كفى.
أخذت تقلب في بنتيها.تكاد تجن.كيف تموت الملائكة في جرمانا.
تضع الطفلتين بجوار أبويهما.تجلس ناحبة.إذا بقيت سيأت النهار و يسبونها شياطين النصرة.
لابد من إستكمال المسير.
تسير و لا تدر اين تسير.فات الليل و هي سائرة كالمجنونة تهذى و تبكي و تلطم و تضحك وتصلي هكذا يفعل الهاربون من الجحيم.
وصلت أطراف البلدة.
كانت سيارات الجيش السوري تنتظر.
سألوها عن إسمها هل أنت سنة أم شيعة ؟ قالت أنا سولافا سابا مسيحية وأظهرت لهم صليبا من جلد أعطاها إياه أحد رهبان دير القديس أنطونيوس الكبير بجرمانا.
جعلوها تمرق و إستقبلتها خيام الأمم المتحدة علي أطراف دمشق.أعطوها غذاء و كساء و دواء فنامت لا تدر أين نامت.
قامت فجراً تدور الخيام لعلها تجد زوجها وطفلتيها.
كانت تظن أن موتهم بالأمس كابوس أتاها في نومها.
لكن الكابوس الأقسي كان في يقظتها.
إنهارت و قضت اليوم تصرخ.كان بجوارها نساء كثيرات مذهولات مثل سولافا.
نظرها موظفوا مكتب الأمم المتحدة.
وقعت علي ورقة و هي لا تدر ما بها.أخذت بضع دولارات وصرفوها علي أن تعود بعد أسبوعين.
مضت سولافا تبحث عن أهل,عن اصدقاء,عن كنيسة.
وجدت باب كنيسة مفتوح.دخلت فأعطاها الكاهن طعاماً.
سألها عن أسرتها فأجابت دموعها بكل الإجابات.
ذهب الكاهن قليلاً و عاد و معه إمرأة كورية.
أخذت سولافا إلي غرفة مستقلة وعاونتها علي تهذيب نفسها.
إلتقطت لها صورة وصار لها شهادة مؤقتة بهويتها.
وهي لا تعرف ما هويتها الآن.يومين و جاء أتوبيس أقلها حتي تركيا.
هناك أخذها مكتب الأمم المتحدة إلى عنبر كبير مثل العنابر في مزارع الحيوانات.
قالوا لها أن تركب أول أتوبيس يقف قدام العنبر,ركبت و هي لا تدر شيئاً.
كانت الأيام تخطفها من الحياة من الأماكن و الناس.
سار الأتوبيس إلى المطار و طارت الطائرة إلي ماليزيا.
هبطت سولافا لا تدر كيف تقف علي قدميها من الدوار, لا تدر أين جائت.
كان معسكر مؤقت للأمم المتحدة مكتظ بأفراد من بلاد كلها ترفع الآذان وتقيم الفرئض و تطبق الشريعة وتقتل المسيحيين .
كان لديها عنوانا و عشرين دولاراً.أخذت العنوان إلي أول شخص قابلته.سولافا لا تتكلم الإنجليزية.
الناس هناك يتكلمونها مثل الهندية.
أحد السوريين ساعدها.أخذها معه حتي نهاية العنوان.
قرعت الباب ففتحت مدرسة فرنسية متزوجة بماليزي.أخذت سولافا في حضنها والعيون دامعة.
بقيت ثلاثة أيام ثم تركت البيت بعد أن حاول الماليزي الإعتداء عليها عند منتصف الليل.أعادتها المدرسة الفرنسية إلي الكامب.
لم تقل شيئاً.أحد الأفغان عرض عليها الزواج فور رؤيتها.لم يقل لها سوي لا إله إلا الله الله أكبر.
وكأنه سيقتل الذبيحة.شيعته بنظرات كالسيف.
وفيما هى تبتعد رأت وجوهاً لبعض الشبيحة يطلبون اللجوء أيضاً ؟ ما هذا الكامب المقزز.
ذهبت للموظفة أخذت عنوان كنيسة.
أخذتها عائلة لبنانية تخدم في الكامب.كانت لطيفة معها جداً.
تسامرت معها.سولافا تتكلم لأول مرة منذ شهر تحكي الأحداث مثل فيلم معاد.
الأسرة اللبنانية سمعت مثله الكثير أخذتها البيت و أطعمتها.
صلت مع سولافا فأحست بالسلام لأول مرة منذ زمان.أكلت الخبز الشامى و الطعام الشامي وعاد الحنين إلى الشام.
عيناها هناك.
مثبتتان عند الصخور حيث كومة الحجارة فوق أجساد زوجها و الطفلتين.
بللت خبزها بالدموع.
أخذتها الزوجة فى حضنها وقالت كلاماً معزياً.
سولافا عائلتك ليست تحت كومة الحجارة.هى الآن في حضن المسيح.
ألسنا كلنا إلى حضنه نشتاق,يدفنوننا في نفس التراب و نذهب إليه.
فإجعلي دموعك صلاة وتوشحى بالرجاء.
أدارت العائلة تسبحة عتيقة تقول أن الله معنا كانت كلماتها مشجعة ولحنها كنشيد حرب من السماء على جميع الأشرار.
تشجعت سولافا تركت المائدة و وقفت قدام صورة للمسيح المصلوب وقالت لها أنا أيضاً أشعر بك لأني مصلوبة هنا.أخذتها العائلة اللبنانية لتعمل معها في مطعم تمتلكه.
كانت سولافا تتعزى يوماً بعد يوم.
وعمل الله يتضح معها شيئاً فشيئاً.كان يريد أن تتفرغ له فأنقذ أسرتها من الأرض والهلاك و أرسلها حيث يريدها أن تخدم.
إندمجت سولافا في العمل و في المساء تذهب مع العائلة اللبنانية إلى الكامب تلتقط المنتحبين والمنتحبات وتسمع مآسيهم .
تترفق بهم و تصلي لهم و معهم.تترقب الشبيحة الذين يتخفون في الكامب و الأفغان الذين يدعون أنهم صاروا مسيحيين لينالوا اللجوء.كانت تَحذر منهم و تُحذر منهم.
بدأت السلطات الماليزية تنتبه للمندسين بعدما تعددت حوادث التخريب بسببهم في المناطق المحيطة.
تمر الأيام و الجميع صار ينادي سولافا ماما سولافا.حتي جاء يوم و نودى علي سولافا يهنئونها.
تمت الموافقة على لجوءك بإستراليا.
الجالسون في الكامب حزنوا لما سمعوا أنهم سيفتقدون سولافا.
نظرت سولافا بهدوء و قلبها يصلي ثم أجابت الموظفة السعيدة بالخبرتشكرها قائلة أنا سأبقي هنا حتي يفرغ هذا الكامب من كل من فيه.
هل تقبلوا إستضافتي.
فجأة دوى التصفيق من كل ناحية.
نهضت موظفة الأمم المتحدة تقبل يدها صائحة سولافا أنت هنا الأم تيريزا فكيف لا نفرح ببقاءك.
ختمت الموافقة على اللجوء و أودعته في أحد الأدراج.
عادت سولافا لأحد المجموعات تفتح الكتاب المقدس و تقرأ وعود الرجاء و الثقة كانت تقرأ (ها أنا معكم كل الأيام و إلي إنقضاء الدهر)
وكان الجالسون يرددونها حتي الذين لا ينطقون العربية.
عاشت سولافا ستة أعوام هناك ثم رحلت.