الدكتور / صلاح عبد السميع عبد الرازق
لم تكن تلك زيارتي الأولى إلى دولة السويد ، والى العاصمة استكهولم بشكل خاص، إنما هى الزيارة الثالثة ، وفى كل مرة اكتشف الجديد ،ويتأكد لدى أن الخلل لدينا يكمن فى التربية وفى الممارسات ، لدينا من الكلام مايكفى ، ولكن ليس لدينا من الأفعال ، نتحدث عن النظافة وإنها من الإيمان ، وفى الواقع نرى الشوارع والبيوت والأماكن العامة غير نظيفة ، يتفنن الناس فى الإساءة إلى البيئة ، ونحن من يعلمهم القرآن” وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) (الأعراف).
” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (77) (القصص).
الواقع يشير إلى أن مجتمعاتنا لا تترجم تلك الآيات إلى واقع يمارس ، ولهذا نرى غياب احترام البيئة ، وانتشار الفساد بشتى أنواعه بين العباد ، ولعل مصدر الخلل يتمثل فى تلك الفجوة بين التنظير والتطبيق ، وكذلك غياب القانون وتغيبه عن عمد ، وذلك لتتاح الفرصة للمفسدين فى الأرض ، وحتى لا يتعرضوا للمحاسبية ، ومن هنا يكون تعطيل القانون شكلا وموضوعاً ، وأحيانا يفعل شكلاً ، ويغيب موضوعا عن المشهد .
بينما فى الواقع المجتمعي الذى عاينته بنفسي وعايشته فى السويد ، ترى الجميع تحت مظلة القانون ، الكل يعمل من أجل أن يعيش عيشة كريمة ، وفى المقابل الدولة توفر للجميع متطلبات الحياة ، المواطن هو الأهم ، وان اختلف نظام الحكم ما بين يمينى أو اشتراكى ، فى النهاية هناك التزامات يجب على الدولة أن تقدمها للمواطن ، ولا تشعره ابداً انها تمن عليه ، أو انها تعطيه هبة ، الواقع يشير الى أن الجميع سواء أمام القانون ، لا فرق بين وزير وعامل بسيط ، الجميع يشعر بمكانته فى المجتمع ، ويحصل على مستحقات الحياة الكريمة من قبل الدولة .
فعندما نحترم المواطن ونقدره ،نرى النموذج الحقيقي للدولة واقعاً يترجم كل معاني العطاء والنظام ، المواطن يعمل بجد وإخلاص ، لا يتهرب من واجباته تجاه دولته ، يبادر طواعية الى دفع الضرائب المستحقة عليه ، يكسب وفى المقابل يدفع بكل رضا لأنه يعلم أن ما يدفعه سوف يعود إليه مرة أخرى وان جار عليه الزمان ، فالدولة تكفل العلاج كما تكفل الإنفاق على التعليم ، وتقدم الوجبات الساخنة للجميع من الروضة إلى نهاية السلم التعليمى ، الكل يعمل فى صمت ، احترام الوقت قيمة تدرس من خلال المشاهدة والمتابعة ، بمجرد أن تأتى الساعة الساعة الثامنة مساءاً ، يكون هذا إشعارا للجميع بأن يخلد الى النوم ، انها رسالة لأولياء الأمور ، فلا حديث عن صحبة الأبناء الى الخارج بعد الثامنة مساءا ، ومن يضبط وبصحبته طفله خارج المنزل بعد الثامنة مساءاً يخضع للمسائلة، لأن الطفل من المتوقع أن يكون بالمدرسة صباحاً ، ولهذا تم تفعيل القانون على الجميع ، طبعاً يستثنى من ذلك أيام الجمعة والسبت مساءاً . فى المقابل نرى فى مجتمعاتنا الفوضى شعارا يرفع ، بطالة تعبر عن نفسها من خلال شباب يرتاد المقاهي بشكل يومي ، السهر حتى مطلع الفجر فى ماذا ولماذا لا تعرف ، ربما لعب الطاولة ، او الجلوس أمام الكمبيوتر لا للتعلم والمدارسة وانما للهو وتضيع الوقت ، نرى بمجرد المشاهدة فوضى التعامل مع الطريق العام ، نسمع الأصوات العالية ، ونسمع السباب والشتائم ، ونرى حالات العنف التى تمارس بين الطلاب أثناء اليوم الدراسي داخل الصف وخارجه ، مدارسنا تحولت الى فوضى فى الشكل وفوضى فى المضمون ، غابت عنها الهيبة فى الشكل وفى المضمون ، غاب عنها الانتماء من قبل الطلاب والعاملين ، تمر بجوار المدارس فى العالم الغربي وأشير هنا إلى السويد نموذجاً، فلا تسمع اصواتاً مزعجة ، قد تسمع صوت لعب الأطفال وهم فى حدائق مفتوحة بجوار المدرسة ، وقد خرجوا فى نظام وترتيب بصحبة المعلم أو المشرف على النشاط ، وعند العودة إلى المدرسة بعد انتهاء النشاط الرياضي ، يعودوا بنفس النظام ، لا مجال للفوضى ، انها التربية للمهارات الحياتية يعيش الطفل بها ويتعلمها من خلال الممارسة .
ان البيئة التى تحترم من قبل من يعيشون عليها ، من المؤكد انها تحترمهم وتقدرهم وتعطيهم ، نعم الشوارع نظيفة والحدائق فى كل مكان ، والأشجار المثمرة فى كل ربوع الأرض ، تمر عليها فترى الفاكهة وقد فرشت الأرض ، تبحث عمن يأكلها ، وبأدب شديد يتقدم الأطفال والكبار ليأخذوا فقط ما يكفيهم من تلك الثمار ، وان اكلوا منها لا ليقون بالفضلات على الأرض أو فى الطرقات ، تعلموا احترام البيئة ، فكانت النتيجة أن العيون تقع على كل ما هو جميل ، بينما نحن انتهكنا حرمات البيئة فتعامل معها الكبار بكل أشكال الإساءة ، ومن هنا غاب مفهوم القدوة ، آباء يلقون بالقممامة فى الطرقات ، فماذا يفعل الأبناء ؟ من المؤكد أنهم وبفعل المحكاة ، يقلدوا الوالدين ، المعلم من المفترض أن يكون قدوة فى المدرسة فإذا به يدخن فى الصف وأمام الطلاب ، ويلقى بالقمامة ، يدرس موضوع النظافة ، وفى الواقع يكون هو اول من يتخطى الحدود ولا يترجم ما يدرسه من مفاهيم ، انه الواقع التعليمي الذى انفصل عن البيئة ، ولهذا رأينا ما نحن فيه من إساءة إلى البيئة .
لقد رأيت ذلك النموذج الذي لم يولد من فراغ ، وانما نتج عبر تربية حقيقية ، وممارسات فعلية بدأت من المسئول ، الحاكم قدوة والملك أو الملكة قدوة ، الأمير أو الأميرة قدوة ، الحكومة قيد المسائلة فى اى وقت ان خرجت عن القانون أو أساءت إلى المواطن ، الوزير الذى يرتكب اى خطأ اخلاقى يبادر فورا بتقديم استقالته قبل أن يطلب منه ذلك ، الجميع أمام القانون سواء بسواء ، لا مجال للفساد الادارى ، ولا للحديث عن الادارة بالفساد ، كما نراها فى مجتمعات اختارت أن تدير بالفساد، كما قلت القانون مفعل ويدرسه الجميع ، حتى لا يرتكبوا أى خطأ ، الدولة فى السويد تحرص على التواصل مع الشعب ، الدولة والحكومة تعيش مع الشعب ، وتبقى فى مكانها ان اراد الشعب ذلك ، ديمقراطية الشعب ، يختار من يشاء ، ويرفض من يشاء .
من أراد أن يستفيد من تجارب الشعوب ، فالتجارب موجوده ، ومن أراد أن يتعلم فباب العلم مفتوح والتجارب الحياتية قائمة ، وكل الدول لديها سفراء يستطيعوا نقل كل ماهو ايجابي ، بل يمكن لهم إن أرادوا ذلك ان يفعلوا تلك العلاقات لتكون على مستوى الإفادة والاستفادة من تلك المجتمعات ، والى أن نعى تلك التجارب ونتمثلها لنترجم ما هو ايجابي وفعال فى واقعنا ، علينا أن نعى أن من أراد أن يتقدم فلا بد من أن يسعى الى تربية وبناء جيل يعى معنى العطاء والانتماء ، على ضوء ممارسات فعلية وليس خطابات طنانة شعارها الكلام وكفى ، واختم مقالي بهذا التعليق العفوي الذي سجلته عندما شاهدت أشجار التفاح على جانبي الطريق امام جامعة استكهولم ، وقد اكتست الأرض بثمار التفاح ، فسألت نفسي لماذا تذرع تلك الدول أشجار مثمرة ، بينما نحن نزرع أشجار الفيكس التى تدمر التربة وتستهلك المياة ، ولا نستفيد منها إلا بظل ، في زمن نحن أحوج ما نكون الى ثمار تأكل ، حتى نملك غذائنا ، أم ان هناك من يرفض أن نملك إرادتنا في الغذاء والدواء والتعليم ؟؟؟
الوسومصلاح عبد السميع عبد الرازق
شاهد أيضاً
لا تقلق أنها جملة اعتراضية!!
كمال زاخر الإثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ مازالت الرسائل التى تحملها الىَّ آليات العالم الافتراضى، على …