الإثنين , نوفمبر 25 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

حكم بالاعدام

مدحت موريس

تلاحقت انفاسها وتسارعت دقات قلبها وهى تنتزع بداية المشهد من اعماق الماضى البعيد فتنفض عنه غبار السنين ليظهر واضحاً جلياً امام عينيها.

على عكس الاجواء الرهيبة التى تحيط بها الآن وموقفها العصيب، تسللت ابتسامة خفيفة وقفزت على شفتيها..

ابتسامة بريئة اقتبستها من المشهد القديم التى استعادته من اغوار الماضى ورأت فيه نفسها فى الزى المدرسى تجرى لتخطف حقيبة المدرسة وتفتح الباب خارجة مسرعة الى الشارع الفسيح لتلتقى ابناء وبنات الحى يشاركونها نفس الطريق، يقاسمونها نفس السعادة البريئة التى كانت اسهل واسرع المشاعر التى تبرز فى تلك المرحلة من حياتها، اتسعت ابتسامتها فى خلفية المشهد

وهى ترى تلك الاشرطة البيضاء على جانبى شعرها الناعم الطويل…كم مضى من الوقت وامها تمشطه وتهذبه وتعقد الفيونكات على جانبيه ليصير شعرها تاجاً يضيف مزيداً من البراءة على وجهها البرىء.

ومضت الحياة فى سعادة الطفولة البريئة الى ان اتى يوم استيقظت فيه وقد قرر الجميع اغتيال براءتها وقتل طفولتها!!! يوم تحولت فيه حديقتها الصغيرة بزهورها وطيورها المغردة الى غابة موحشة بحيواناتها المفترسة وغربانها الناعقة….يوم عرفت فيه الدموع وحرقتها، يوم تحولت احلامها الصغيرة الى كوابيس وحياتها الى سجن كبير وتحول اهلها الى سجانيها….يوم ظهرت عليها علامات الأنوثة!!!!!

فصدرت الاوامر والقرارات بداية من الاب – الذى لم يعد يداعب طفلته كما كان يفعل من قبل – الى الام المستسلمة المهزومة والتى تحاول اظهار قناعتها بتلك القرارات التى تنقلها لابنتها وما على الابنة الا تنفيذ تلك القرارات. اما هى ففى البداية – وبنفس البراءة – انصاعت لقرارات منزلها فهم يعرفون اكثر وبالتأكيد يريدون صالحها.

امتنعت عن الكلام مع اقرانها من الذكور فى المدرسة واقتصرت كل علاقاتها على الفتيات، وقد سمعت من ابيها انها بعد الانتهاء من المرحلة الابتدائية ستلتحق بمدرسة اعدادية للبنات بما يحقق الارتياح للاسرة، اما هى فشعرت ان الامر عندها سيان…سواء كان زملاء دراستها ذكوراً او اناثاً. توالت التغيرات ومع كل تغير قرارات جديدة….انتابها الحزن يوم سقطت الشرائط….

انتزعتها الام من شعرها فقد آن الاوان لأن تخفى شعرها عن الاعين…سألت عن السبب وعرفت انها بهذا ترضى الله…ومن منا لا يريد ارضاء الله؟

هكذا قالت فى نفسها لكنها سألت ايضاً فى نفسها لماذا خلق الله شعرها فوق رأسها اذا كان يريدها ان تخفيه؟. تغيرت حياتها الى حد كبير واختلط الامر لديها فى امور متعددة فصارت تخشى ان تفعل ما لا يرضى الله فتلجأ لامها التى بدورها تلجأ لابيها تستقى منه النصيحة وتصبها فى اذنيها اما هى فعليها التنفيذ…مفردات جديدة اقتحمت حياتها كانت ابرزها كلمة “عورة”!!!

لم تستعذب الكلمة ولم تحبها لكن هذا لم يمنع وجودها واثرها فى حياتها الجديدة حتى ولو بصورة لا ارادية فكانت فى طريقها الى مدرستها الاعدادية تحتضن حقيبتها لتدارى صدرها عن الاعين الجائعة، اما عيناها هى فظلتا زائغتين طوال الطريق فهى فى حالة ترقب دائمة ولا تعرف من اين يأتى الخطر.. و ملابسها التى تغطى كامل جسدها فلا بد ايضاً ان تكون فضفاضة واسعة بحيث لا تلتصق بأى جزء من جسدها الذى عرفت انه قد تحول من جسد متناسق الى “عورة”.

بل حتى مشيتها لا بد ان تراعيها لئلا تلفت الانظار اذا ما اهتز جسدها او جزء منه..وتذكرت مدى تقدير واحترام ابيها لاحدى بنات الجيران والتى شبه مشيتها فى الشارع بمشية الشاويش، اما هى وقد ظهرت عليها بعض علامات التمرد فلم تستطع تقليد ابنة الجيران فجاءت مشيتها فى منتصف المسافة ما بين الدلال والاحتشام وكم عنفها الاب – عن طريق – امها لهذا السبب.

ومضت حياتها من مرحلة لاخرى والقرارات تتسارع والمحرمات فى تزايد وفى كل يوم تضاف مفردة جديدة الى مفرداتها اللغوية وان بقيت كلمة ” عورة” تشنف اذنيها فلم يعد الاب وحده مصدراً لمفردات التحريم فالراديو والتليفزيون والصحف والمجلات وهيئة التدريس بل والمجتمع كله اكتشف اموراً عديدة لم تكن معروفة من قبل والغريب ان الجميع اتفقوا على ان هدفهم الاعلى الا يثيروا غضب الله ….قالت فى نفسها مستغفرة ”

وهل غضب الله امراً جديداً فى الحياة، ام ان ما سيغضب الله اليوم لم يكن ليغضبه فى الماضى؟” ..زادت علامات التعجب فى حياتها والقت بظلال على حياتها الاسرية فهى فجأة حُرمت من حضن ابيها بلا مبرر مفهوم سوى انها صارت مكتملة الانوثة!!! وهل فى هذا مبرر بألا تلقى بنفسها فى حضنه وتنهل من عطفه وابوته؟

اما الام فقد تحولت الى مُنفذ لاوامر الاب بلا تفكير او تدقيق وكم انتقدت امها كثيراً وهى تتذكر مقولة احمد شوقى الشهيرة ” ياله من ببغاء عقله فى اذنيه” ثم تتراجع وتُرجع ذلك الى طيبة قلب امها. وتمضى الايام على نفس المنوال وتشعر باشياء غريبة تحدث فى المنزل واحاديث جانبية هامسة بين الاب والام تتأكد انها تخصها من خلال النظرات الساذجة لامها…ثم يتم اعلان الخبر… عريس؟

تتساءل فى استنكار والمدرسة؟ هى البنات لها الا الزواج؟ احاديث كثيرة تتعلق بالزواج والاسرة والامومة لابنة الرابعة عشر..ثم اخيراً يتحدث الاب لا ليشاورها بل ليأمرها وفى نهاية الحديث تقتنع الفتاة بشىء واحد وهى انها عار يريد الاب ان يزيحه عن كاهله. ثم يأتى اليوم الموعود

وبعد الافراح والزينات تنكمش المسكينة فى انتظار الجزار الذى ينال منها ويتمتع بها غير عابىء بآلامها النفسية والجسدية…وتمر الايام وهى ترى من تعيش معه يتعامل معها بنفس اسلوب ابيها مع اضافة انها صارت وعاء للمتعة ينهل منه اينما اراد وكيفما شاء..وهكذا مضت الحياة والجميع سعداء الام والاب والزوج اما هى فلماذا لا تكون سعيدة؟ هكذا تساءلت الام بسذاجتها المعهودة.

ولم تُكمل الايام دورتها الا وكانت الفريسة الذبيجة قد انتفضت لتقف امام من اغتصب طفولتها وبراءتها…

ولم تستطع الانتقام من ابيها وامها والمجتمع كله فاختزلت انتقامها فى زوجها الذى اغتال البقية الباقية من آدميتها وتفيق يوماً على مشهد مفزع لسكين بيدها وجسد زوجها ينزف، نهضت داخل القفص وهى تستمع لممثل النيابة وهو يصفها بابشع الصفات فهى الخائنة للعهد والقاتلة المجرمة،هى من قابلت الجميل بالاساءة وفى المقابل

وصف الزوج باعتباره المحسن المبر والذى اواها ورعاها واسكنها فى داره هكذا وكأنه وجدها ملقاة على قارعة الطريق. استعد القاضى للنطق بالحكم اما هى فقد جالت عيناها فى انحائ القاعة

تبحث عن ابيها الذى لم يحضر الجلسة فقد تبرأ للابد منها اما الاد فقد كانت تجلس باكية على حال ابنتها وتتساءل فى دهشة اقرب الى البلاهة عن سبب كل ما حدث ، لم تندهش لغياب ابيها ولم تندهش لبكاء امها لكنها اندهشت لوجودها وحدها فى قفص الاتهام فاين ابيها واين امها بل واين المجتمع كله فكلهم جديرون بأن يسبقوها الى قفص الاتهام. اختفت ابتسامتها تماماً وهى ترى القاضى ينطق بالحكم…صمت اُذنيها عن سماع حكم القاضى فلن يهمها الامر كثيراً فقد صدر الحكم باعدامها منذ زمن بعيد.

شاهد أيضاً

لماذا تصلي الكنيسة على المنتقلين !؟

جوزيف شهدي في الايمان  الارثوذكسي أن الكنيسة الموجودة على الارض تسمي الكنيسة المجاهدة وأن أبناءها  …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.