كانت الصبية الصغيرة حنان تجلس كل يوم علي جانب الطريق بملابسها البالية و منظرها الرث الذي يثير الشفقة ..تتسول ، كانت تتسول كل شئ و اي شئ… كانت تتسول لقمة تسد بها جوع جسدها ، كما كانت تتسول نظرة عطف او شفقة من عين اي مارٍ بها لتسد بها جوع روحها و قلبها ، كانت جائعة لكل شئ و لأي شئ…
حاولت في مرة تذكر امها او اباها فلم تستطع ، فهي ولدت يتيمة وربتها قريبة لها في احد الاحياء الفقيرة جدا ..و هي التي أسمتها حنان لعل الناس تحنو عليها..و عندما بدأت تكبر علمتها قريبتها التسول ، و زجت بها في الشارع للبحث عن رزقها..
لم تكن حنان متذمرة قانطة ، لكنها كانت يائسة تعيسة … لم تفكر في الهروب لحياة اخري فهي كانت تؤمن ان هذا هو قدرها و نصيبها و عليها ان ترضي به ، كانت روحها هشة مجروحة مخدوشة … تتمني فقط لمسة عطف او نظرة تعاطف… فكانت تتوسلهم و تتسولهم مع لقمتها !
و علي الجانب الآخر من الطريق ، يوجد محل تجارة يملكه رجل ثري تقي يخاف الله
كان التاجر يري حنان يومياً و يرثي لحالها.. كان يشعر بمرارتها و مأساتها.. فقد كان يملك قلباً ذهبياً يشعر بكل من حوله ، كان يرسل لها النقود و الطعام مع مرسال بدون ان تعرف من هو …لم يكن يريد ان يعلن شخصه إلا في الوقت المناسب…. و كان يرسل معه ايضاً خطاب فيه كلمات تشجيع و محبة ..
و كانت حنان قد تعلمت مبادئ القراءة في صغرها قبل ان تنزل الشوارع للتسول ..و قد يكون هذا هو الشئ الوحيد الذي قد تشكر عليه قريبتها …
كانت تجمع الخطابات المرسلة اليها و تحتفظ بها لتقرأها يومياً فتطمئن.. هناك من يهتم لأمرها..و يتقبلها.. و يعدها بالأفضل دائما..
حتي ان كانت لا تراه و لا تعرفه شخصياً .. لكنها موقنة انه موجود … من خلال رسائله و عطاياه…
بدأت حنان بعد الكثير و الكثير من العطايا و الرسائل … توقن انها تحتاج لأن تتعرف و تعرف من هو الراسل … و بدأت تفكر مع نفسها :
هل هو جاري الشاب الوسيم الذي يخفق قلبي عندما يمر جانبي و اتمني منه مجرد نظرة ؟ بالتأكيد ليس هو … انه حتي لا يلاحظ وجودي .. بل يلاحظه و يتقزز من قذارتي… لا اتذكر انه اعطاني شيئاً البتة ..و لا حتي ابتسامة صغيرة تروي قلبي الظمآن !
هل هي السيدة الطيبة المسنة التي امسك يدها و هي تعبر الطريق كل فترة لتذهب للسوق لتشتري احتياجتها بعد ان سافر كل ابنائها و تركوها وحيدة ؟ لا اعتقد فهي ارملة وحيدة ..فكيف ترسل مرسال إليّ و لماذا ؟ غير انها لا تستطيع الكتابة لان يدها دائما مرتعشة بسبب المرض…
هل هي قريبتي التي تربيت في بيتها ؟ بالتأكيد ليست هي… فهي لا تحبني و لا تشعرني بأية اهمية… هي فقط تريد النقود التي اتسولها !
هل هو الشاب الذي يتسول في الشارع المجاور ؟ لطالما عاكسني بأسلوبه الفظ و وعدني بوعود أعلم انها زائفة ؟ اعلم انه يكسب اكثر مني في التسول بكثير …و لكن لا ..ليس هو… ليس اسلوبه ..لا اعتقد ان لديه هذه المشاعر الراقية…
حدسي يحدثني بأنه شخص مختلف … يحس بي … يهتم لامري… اكثر من مجرد عطف علي متسولة فقيرة…
أيمكن ان يكون هو أبي ؟ أيمكن ان يكون لم يمت…و لكنه تركني لما ولدت.. و الآن عائد نادم و يريد تعويضي ؟؟
ام هو حبيب ؟ يحبني من بعيد ؟ و سيعوضني عن كل ما مضي ؟؟
دب الامل في قلبها الرقيق…و لكن سرعان ما تكاثفت سحب اليأس علي عقلها ، فضحكت بسخرية … و هل يحب أحد متسولة فقيرة تقتات من الشارع… منظرها قذر و رائحتها كريهة ؟؟
انه مجرد حلم جميل …محسن نبيل ارسلته لي عناية السماء … لا املك سوي ان اتقبل عطاياه و اتعزي برسائله … و لا اتطلع لاكثر من ذلك …
و تمر الايام …..
و الصبية الصغيرة بدأت تكبر قليلاً … و قد كانت ملامح وجهها الرقيق تعبر عن معاناة و احتياج ممتزجان ببعض الأمل …
كانت قد تعودت تماماً علي حياتها كمتسولة…. بل اصبحت محترفة ..و تدرب المتسولين علي اساليب جديدة للتسول !
و علي الرغم من معانتها … كان قلبها حنوناً .. كانت تعطف علي الصغار الفقراء ..و تعطيهم من العطايا التي يرسلها لها المرسال – بدون علم قريبتها- و تحكي لهم عن ذلك المحسن… ذلك الحلم … التي باتت تحلم به… الحب و الامان و الطمأنينة التي تتسولها في كل من حولها …
و في يومٍ … مميز جداً في حياة حنان -المفتقدة للحنان – رفعت عيناها و رأته … انه التاجر الثري الذي تراه و تري محلات تجارته علي الجانب الآخر من الطريق… انه ذلك البخيل – كما حدثت نفسها – الذي يراها جالسة تتسول و لم يعطف عليها بشئ بالرغم من ثرائه… انه البعيد الساكن وسط غناه و قصوره و امواله و لا يتطلع علي الفقراء امثالنا… انه الظالم الذي يعطي لمن يريد و يمنع عن من يريد… لماذا جاء الآن ؟ هكذا كانت حنان تحدث نفسها سارحة في افكارها ..و هي تنظر اليه نظرة جوفاء…
في حين كان ينظر اليها نظرة حانية متفحصة و كأنه يقرأ افكارها …
ابتسم لها و قال : هل تريدين ان تحصلي علي وظيفة لديّ ؟
فؤجئت بسؤاله و ردت : وظيفة ؟ أتسخر مني يا سيدي ؟ أنا غير متعلمة…بالكاد استطيع ان القراءة.
– أعلم ذلك…أعلم انكِ تستطيعين القراءة.. فأنتِ تقرأين رسائلي !
تفرست في وجهه مذهولة..و بداخلها ألف تساؤل : أنت هو ؟ لماذا ؟ و كيف ؟ ولماذا انا ؟ و لماذا الآن ؟ و…. و…. ؟؟؟؟؟
قفزت من مكانها و وقفت امامه متلعثمة : انني… انت… لقد … هل… لماذا ؟!!!
ابتسم التاجر لها : أعلم انك تشعرين بأنني قد تأخرت قليلاً… و لكني كنت أعدِّك وألاحظك …لم اتركك … رأيتك و انتِ تتمسكين برسائلي… و رأيتك وانتِ تعطفين علي الصغار.. سمعتك و انتِ تحكين لهم عني …
انني…بالرغم من ثرائي .. لكن محبتي و بهجتي و راحة قلبي الحقيقية في رؤية الآخرين فرحين …احب الاطفال جداً … اتمني ان تكون لديّ ابنة مثلك تؤنسني..اتمني ان تعيشي معي كأبنة لها كيان و قيمة.. وسط اخوتها…نعم.. فبيتي ملئ من البنين و البنات .. يعملون معي في تجارتي و يعيشون تحت سقفي… اعوضهم عن كل ما عانوه .
حنان… انا احبك… احب قلبك البرئ الذي لم يتشوه بالحقد و الغل و الكراهية… احب بساطتك و محبتك للخير و للغير … أحب حتي ضعفك ….و بالرغم من منظرك فأنا لا اتقزز منك .. لاني لا انظر للمظهر الخارجي قط… و لا اريد منك مقابل فعلاً … رسائلي و وعودي التي ارسلتها لكِ كلها حقيقية… اريدك مطمئنة مهما حدث.
و اتمني فقط ان تقبلي دعوتي بالعمل و العيش معي في بيتي كأبٍ … وسط اخوتك … إن اردتِ ، فلكِ كل الاختيار .
و أعدك بأنك – إن وافقتي – لن تلجأي للتسول مرة اخري… ستشعرين بالشبع ..بل و تفيضين علي من حولك… لن تتوسلي أو تتسولي … انتِ من الآن حرة…
انتِ محبوبة جداً
الوسومريهام زاهر
شاهد أيضاً
المحاكمات (التأديبات) الكنسية … منظور ارثوذكسى
كمال زاخرالخميس 19 ديسمبر 2024 البيان الذى القاه ابينا الأسقف الأنبا ميخائيل اسقف حلوان بشأن …