الكاتب : مايكل عزيز البشموري
كان يلزم علينا إستعراض تاريخ الكنيسة القبطية بالماضى ، لمعرفة الأسباب التى دعت قادة تلك الكنيسة بالاستقواء على أبناء شعبها بوقتنا الحاضر ؟ ، فمن واجبنا كأبناء غيورين تشخيص حالة الفراغ الروحى والعاطفى الذى وصلت اليه كنيستنا اليوم ، والتشخيص يظهر لنا إنشغال أباء الكنيسة الموقرون بأمور لا يختصون بها ولا تعنيهم ، الامر الذى أنعكس سلبا على مخدوميهم ، وخلق حاجزا نفسياً يفصل بينهم وبين الرعية ، فوضعت الكنيسة بذلك نفسها على أعتاب المواجهة مع المستنيرين من أبناء شعبها ، لتتمسك بحدّه ، بالرياسات والسلطات الممنوحة لها ، دون النظر لمسيحها المصلوب ، الذى أنقذها وحافظ عليها طيلة عقودا وقرون طويلة من الزمان ، لترد الكنيسة الجميل بالنكران ؛ وتسترجع سلطان العصور الوسطى الممثل بالسلطات الثلاث : تنفيذية ، تشريعية ، روحية ، لتستخدم تلك السلطات دون خجل أو أستحياء على أتباعها وأبنائها الضعفاء ، فتنحرف دفة الكنيسة ، دون أي سابق إنذار ، وتتجه نحو المياة الغامرة ، فتلقى بها المياة فى التيارات المعاكسة ، لتغرق الكنيسة بمستنقع السياسة ووحّل العالم بمغرياته .
ويعاتب الاستاذ فاروق القاضى فى كتابه ”العلمانية هي الحل“ ، رجال الدين إزاء سلطويتهم تلك ، فيقول : ” العتب كل العتب ، بل الغضب كل الغضب ، لمن سمح من رهبان يسوع ، قساوسته وباباواته أن تتحول رسالته السمحة إلى سيول للعذاب ، وأمواج للاضطهاد ، فلا شيء ، لا من مبرر غير السلطة التى تجلب النفوذ والثراء ، وأي سلطة أقوي من تلك المسلحة بإرادة إلهية تخشع لها القلوب وتهفو لها النفوس لكونها المآب والملاذ لملكوت السماوات أو لجنة الفردوس . هكذا يتحرك من يدعّون تملك حقائق الرسالات ، أعماق الديانات ، وأهداف العبادات ، من رجال دين وكهنة ، من يرومون عرض الدنيا وزخارفها وهم يتظاهرون بالتمسك بطهارة الروح والجسد ، ليسيطروا على الرعية . يهيمنون على أنقياء القلوب ويستحوذون على ألباب بسطاء المؤمنين ، فيعلنون فى الارض ويزدادون أهمية عند الحاكم فيحكمون معه أو يحكمونه ، لان سلطان الدين أقوى من أي سلطان ، فلمَ لا يجمع سلطان الدنيا بين سيف السلطة وقدسية الدين ليصبح ملك الزمان هو ظل الله على الارض“ .
هنا لا يوجد فارق بين الله وقيصر ، فهناك تشابك صريح بالآية القائلة : ”إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله “ ، فالاثنين قد تساو مع بعضهما البعض ، نتيجة التحالف المعلن بين الطرفين سواء رجل الدين أو رجل الدولة ، فبات الدين كالبوصلة يوجه الشعب والدولة والنظم الحاكمة ، وهو ما حدث تفصيليا زمن عصور الظلام بالكنيسة الكاثوليكية ، التى فرضت وصايتها الدينية على مؤمنيها وغير المؤمنين الذين تم إضطهادهم لأنهم لم يتبعوا الكاثوليكية ، وبالنسبة للكنيسة القبطية وأقباطها فهم خضعوا لحكم الولاة والسلاطين من المسلمين ، فتم إضطهادهم والتنكيل بهم ، لنصرة دين الحاكم بأمر الله ، وكل مَن يعارض هذا الاستبداد الدينى ، كان بلا أدنى شكل ؛ شخصا خارج عن صحيح الدين ، ومستوجب القتل والعقاب ، ويؤسفنى القول بأن الكنيسة القبطية اليوم أصبحت تمارس نفس الاستبداد الدينى ، بإحتكارها للسلطات الثلاث : تنفيذية ، تشريعية ، روحية ، دون مشاركة تذكر للعلمانيين الاقباط ، وأكتفت الكنيسة بتحالفها مع الدولة لتكون جزءاً ومكوناً أساسياً للنظام الثيؤقراطي العسكري القائم الان ، وهو الامر الذى إنعكس بالسلب على شعبها ، وعلى مدنية الدولة المصرية ( إذا وجدت بالأصل ) .
*الاقباط بين إضطهاد المماليك ومعاكسات الكاثوليك :
نستكمل مراجعتنا للحقبة الزمنية التى عاش فيها أجدادنا الاقباط بالقرن السابع عشر ووصولا لبدايات القرن التاسع عشر ميلادياً ، وما بينهما من أحداث درامية غيرت شكل الدولة المصرية وقتئذ ، ومقارنة تلك الاحداث الشبيهة مع مشهدنا السياسي حالياً ، والذى أكاد أجزم ، بأننا نعيش نفس تلك الدولة التى عاش فيها عصابات المماليك ، بما تحمله من فوضى وجهل ومرض وفقر وعنصرية دينية ضد الاقباط ، وبالرغم ما كان يعانيه اجدادنا العظام من ضيقا وإضطهاد ، إلا انهم ظلوا مخلصّين ومحبين لكنيستهم القبطية للنفس الاخير ، مهما زاد الألم ومهما كانت المغريات ، ففى كفاحهم من أجل البقاء بعهد المماليك البائد، فوجئ الاقباط بشن حملة جديدة تحاك ضد كنيستهم ، ولم تأتى تلك الحملة هذة المرة من الباب العالى بالآستانة ، وإنما جاءت من الساكن العالى بالفاتيكان ، ليستهدف إيمانهم ويحضّهم على ترك معتقدهم وإعتناق الكاثوليكية للخلاص ، فيا ترى ماذا فعل الاقباط ؟ – الإجابة عند الجنرال بنوا دى ماييه !
جاء الجنرال العسكري الفرنسي / بنوا دى ماييه إلى مصر عام 1692 م ، وكان شابا يبلغ من العمر ثلاثون عام وقتئذ ، وعاش مع المصريين ستة عشر عاما تعلم خلالها اللغة العربية والتركية ، وتم تعيينه قنصلا سياسيا على مصر ليمثل الإمبراطور الفرنسي ، ومصالح بلاده العليا ، وقد حاول ”دى ماييه“ إستقطاب أبناء الكنيسة القبطية لصالح مذهبه الكاثوليكي ، وبالرغم من محبة الاقباط وتعاملهم معه بإحترام إلا أنه كان شديد التعصب لمذهبه الكاثوليكي ، ولم ينصفهم تماما مثلما كانوا يعاملوه من أخلاق وحسن معاملة ، بل كان يعاكسهم في حريتهم الدينية ولا يبدى معهم أقل تساهل في شيئ بإعتبار انهم تابعون لكنيسة منشقة ومهرطقة فى عرفه . وقد كتب ذات مرة يشكو فيها بحده وغل ليصف الاقباط قائلا : ” لا يوجد فى كل الدنيا شعب عنيد وصلب فى خطائه وتمسكه بمبادئه القديمة مثل هؤلاء الاقباط ، ليستكمل بحسرة : إن أعظم وأمهر وأحذق المبشرين الكاثوليك كانوا يشتغلون فيما بينهم سنين عديدة بلا فائدة ، ولا نتيجة تذكر “ .
وبالرغم من عدم محبة ”دى ماييه“ للاقباط ، إلا أنه أشاد بعزة أنفسهم ، بالرغم كونهم مضطهدين وتعساء ببلدهم ليقول : ” كان الاقباط يستقبلون المبشرين الكاثوليك بكل أدباً وترحاب ، فكانوا يحترمون غيرة اولئك المبشرين وخدمتهم ، وكانوا يقابلون شفقتهم عليهم بالشكر والامتنان ، ومع ذلك كله كان يستحيل بالمرة زحزحت أقل واحد منهم عن ترك مذهبه أو تغيير معتقده مطلقاً ، ولذلك تعزر على جميع المبشرين الكاثوليك جذب قبطي واحد للمذهب الكاثوليكي رغما عما في ذلك من المساعى الهائلة “ .
* محاولات لكثلكة الاقباط دون فائد :
وأضاف المسيو دى ماييه فى مذكراته عن محاولات المبشرين الكاثوليك الفاشلة لإستقطاب الاقباط لمذهبهم : ” لقد قصد المبشرين مرة توزيع الصدقات على فقراء الاقباط حتى يستميلوهم إلى سماع تعاليمهم فأوجدوا لهم محلا ، وجمعوا عددا كبيرا من الفقراء والبائسين وأخذوا يوزعون عليهم الصدقات ثم يباشرون الوعظ بينهم حباً في جذبهم إلى المعتقد الكاثوليكي ، وأضاف ”دى ماييه“ بحسره بالغة : ”وجاءت تلك الجهود بلا أي نتيجة مع الاقباط إلى أن تم تعيين رئيس جديد للارسالية الكاثوليكية بمصر ، فأمر بمنع الصدقات عن هؤلاء الفقراء فأمتنعوا عن المجئ لسماع الوعظ ، فلما أرسلوا يطلبونهم لسماع الوعظ أمتنعوا وقالوا جملتهم التى لن أنساها : ” مفيش فلوس _ مفيش كنيسة “ ، وبذلك لم يبق مع اولئك المبشرين الكاثوليك بصفحة دائمة غير نفر قليل جدا ، ولم يعتنق مذهبهم غير الذين أخذوهم من والديهم وهم كانوا أطفال من أولاد الفقراء ، وقاموا بتربيتهم منذا نشأتهم على المذهب الكاثوليكي ، وبتلك الطريقة كان يمكنهم تحويل القطبي الارثوذكسي إلى مؤمن كاثوليكي “ .
* طرق غير أخلاقية لإعتناق الكاثوليكية :
وتستغرب مدام بوتشر من أسلوب الارساليات التبشيرية المسيحية وطريقة عملها في مصر لتقول : ” من الغريب ان المسيو دى ماييه ورفاقه الكاثوليك ، لم يوجهوا فكرهم للطرق التى يمكنهم النجاح فيها من هذا القبيل ، لانهم لو فكروا فى الاهتمام بالوعظ بين المسلمين كان يمكن لهم النجاح أكثر من نجاحهم مع الاقباط إخوانهم في الدين ، لانه كان معلوم في تلك الايام أن الغرض الحقيقي من وراء إرسال الارساليات المسيحية إلى مصر ، كان الهدف منه إيصال التعاليم المسيحية إلى المسلمين وتبشيرهم بالمسيحية ، وليس لمعاكسة الاقباط الارثوذكس فى معتقدهم “.
وكان يحضر بمدارس المراسلين أقباط ومسيحيين مصريين ، وكل هؤلاء كان يتم إرغامهم بالترغيب ، لحضور اجتماعات الصلاة والتعليم بتلك الارساليات ، وتلك الطريقة لم تؤثر على الاقباط ولم تحملهم مطلقاً بالتخلى عن كنيستهم الاصلية .
وفي عام 1699 م أصدر إمبراطور فرنسا لويس ، للقنصل الفرنسي بالقاهرة المسيو بنوا دى ماييه ، أمرا بإنتخاب ثلاثة من أولاد الاقباط وإرسالهم لبعثة إلى فرنسا لتعلم الكاثوليكية ، مع التشديد بإختيار اولئك الاولاد من عائلات طيبة السمعة ، وقد روى دى ماييه بمذكراته أنه حاول تنفيذ هذا الامر الامبراطوري والحصول على الاولاد المطلوبين دون فائدة ، وحاول توسيط رجال السلطة من المسلمين وأصحاب المقامات العالية وانتهى به الامر ليكتب بمذكراته : ” كان من المستحيل إغراء أقل قبطي من عائلة طيبة على التفريط فى أبنه لهذا الامر النافع لمستقبله “ ، وبعد الجهد الشديد والسعى المتواصل لبضع سنوات ، لم يمكنه الحصول على أي ولد واحد من عائلة بائسة ومن أفقر الناس ، وكانت نتيجة تلك المساعى ، أفرغت كل مدارس المراسلين الكاثوليك من أولاد الاقباط خوفا من إختطافهم وإرسالهم إلى فرنسا ، حتى الذين في فقر مدقع منهم انقطعوا عن المجيئ لأخذ الصدقات والاحسانات كالعادة ، خشية من أخذ أولادهم بغير رضاهم ، وهكذا الذين كانوا يتضورون جوعاً تنحوا بالمرة عن التردد على المراسلين لهذا الامر عينه .
للحديث بقية
الوسوممايكل عزيز البشموري
شاهد أيضاً
المحاكمات (التأديبات) الكنسية … منظور ارثوذكسى
كمال زاخرالخميس 19 ديسمبر 2024 البيان الذى القاه ابينا الأسقف الأنبا ميخائيل اسقف حلوان بشأن …