كتب: حامد الأطير
لا أحد ينكر أن مصر غارقة في بحار من الفساد ، فساد متعاقب الأمواج منذ حقب ، ولا أحد ينكر أن الفلسفة التي أصبحت سائدة والقيم التي يعتنقها الشعب على اختلاف فئاته ومنذ فترة طويلة هي: نفسي نفسي ، أو مصلحتي مصلحتي ، فتحقيق المصالح والمنافع الشخصية ولو على رقاب الآخرين أو على رقبة الوطن نفسه ، صار هو المأرب والهدف ، وأكاد أُجزم أنه لا يوجد في مصر كلها شخص إلا وكان فاسد بدرجة أو بأخرى ، لهذا فإن تقارير الجهات الرقابية وبخاصة تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات التي تعج بوقائع الفساد التي تزكم الأنوف وتصدم النفوس وتطيح بالعقول لم تعد تدهش أحدا ، تلك الوقائع والجرائم التي تتم باستغلال السلطة والنفوذ وبتطويع وتسخير الوظيفة العامة للتربح وتحقيق الثراء غير المشروع ، ونهب وسرقة المال العام .
والتقارير في حد ذاتها تبقى غير ذات قيمة وبلا أثر أو تأثير يذكر طالما ظلت حبراً على ورق وظلت حبيسة الأدراج ، وطالما لم يتخذ حيالها الإجراءات المناسبة من جانب السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية.
ولأن الدولة المصرية ليست دولة مؤسسات بالمعنى المتعارف عليه لأن تغول السلطة التنفيذية وهيمنتها ، يؤثر حتماً على استقلالية السلطتين الأخرتين وينتقص منهما ، ولأن مجلس النواب لازال أمامه الكثير والكثير ليصل إلى النضج في الأداء ، وحتى يمارس حقه وواجبه في مراقبة السلطة التنفيذية بشكل جدي وقوي ينزع عنه الإحساس بالتبعية والولاء لها ، ويحطم الراسخ في الأذهان والعقل الجمعي للشعب ونوابه ، اعتقاد أن القرب من الرئيس والرئاسة منجاة من المهالك والمطاردات والمضايقات والمحاكمات ، وفرصة أيضاً لتحقيق المغانم والمكاسب والحظوة ، ولأن النواب وللأسف لا زالوا يسعون باستماتة إلى القرب والتقرب والتزلف للوزراء والتنفيذيين ، سعيا من وراء تحقيق مصالحهم الخاصة وتسهيل الحصول على بعض الخدمات لدوائرهم ، مما يعتبر مأساة كبرى ، إذ كيف ستراقب وتعارض وزيرا تطلب وده وتتمتع بعطاياه وتعميداته بقضاء الحاجات؟
ولأن القانون لدينا حباله طويلة ومطاطة والمنحرفون يعرفون كيف يستخدمونها وكيف يتعلقون بها ، للقفز هنا أو هناك وخطف ما يستطيعون خطفه ، ولأن الحساب والمحاسبة في بلادنا بطيئة بطء السلحفاة ودائما ما تأتي متأخرة ، ولأن الضالعون في غالبية قضايا الفساد من كبار المسئولين أو من علية القوم المقربين لمراكز السلطة والحكم ، ولأن الفساد في كثير من الأوقات يتم ممارسته بموجب قوانين فاسدة يتم سنها خصيصا لتحلل للفاسدين ارتكاب جرائمهم بأمان واطمئنان ولتضفي عليهم الشرعية ، ولأن المجتمع قد ارتضى الفساد أسلوبا وحياة يمارسه في كل وقت وآن ، في البيت والشارع والعمل ، لهذا كله فقد تضامن الجميع على قبوله والارتماء في أحضانه وأمسى التصارع من أجل نهب القدر الأكبر من ثروات الوطن واغتصاب حقوق الآخرين هو الهدف والمبتغى ، والجميع يعلم أن الطرمخة وغض البصر عن المنحرفين والمجرمين أصبحت من المعطيات والمباحات المقبولة وبلا غضاضة .
ومن المعروف أن الجهاز المركزي للمحاسبات هيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية عامة تتبع رئيس الجمهورية , وتهدف أساسا إلى تحقيق الرقابة على أموال الدولة ، ومن حقه ممارسة أنواع الرقابة التالية:
1- الرقابة المالية بشقيها المحاسبي والقانوني 2- الرقابة على الأداء ومتابعة تنفيذ الخطة 3- الرقابة القانونية على القرارات الصادرة في شان المخالفات المالية .
لذا فلا قيود ولا حرج على الجهاز المركزي للمحاسبات في المراقبة والمتابعة ، بالمراجعة والتدقيق والفحص والتحقق وطلب المستندات والإيضاحات والتفسيرات اللازمة لأداء عمله محاسبيا وإداريا وقانونياً وتقييم الأداء ، والكشف عن أي وقائع انحراف أو جرائم تمس مال الدولة ، بل أن ذلك هو المتوجب عليه ، لأنه ما أنشأ إلا لهذا الغرض ، وقانون إنشائه أطلق يده ووسع وبسط سلطاته وأباح له هذا الحق .
إنما القيود والحرج للجهاز ورئيسه تتأتى فقط من مخالفة القانون والعرف والخروج على قواعد ومعايير العمل التي تحدد مهامه وتحكم أدائه ، وقد حدد القانون الجهات التي يُقدم لها الجهاز المركزي للمحاسبات تقاريره الناتجة عن مراجعاته وفحصه ومعايناته ، فملاحظاته التي تسفر عنها المراقبة يرسلها إلى رؤساء الوحدات التي يراقبها ، ونتائج مراجعة الحسابات الختامية لتنفيذ موازنات الوحدات الحسابية وكذلك ميزانياتها يرسلها إلى وزارة الماِلية والى تلك الوحدات خلال شهرين من تاريخ تسلمه لكل حساب ختامي أو ميزانية ، وملاحظاته على الحساب الختامي للموازنة العامة للدولة يرسل تقريره عنها في موعد لا يتجاوز شهرين من تاريخ ورود الحساب الختامي كاملا للجهاز من وزارة المالية إلى رئيس الجمهورية والى مجلس النواب , و وزارة المالية ، كما أنه مكلف بمتابعة تنفيذ الخطة وتقويم الأداء وإعداد تقرير عن كل سنة مالية في هذا المجال وترسل هذه التقارير إلى مجلس النواب والى الجهات المعنية ، كما يقدم الجهاز إلى رئيس الجمهورية والى مجلس النواب والى رئيس مجلس الوزراء تقارير سنوية عن النتائج العامة لرقابته أو أية تقارير أخرى يعدها , كما يقدم الجهاز إلى مجلس النواب أية تقارير يطلبها منه المجلس .
من هنا يتبين الخطأ الفادح الذي ارتكبه المستشار هشام جنينه رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المقال ، حين خرج على وسائل الإعلام وتحدث إليها فيما يخص نطاق وصميم عمله وفيما لا يخصها ، وطرح عليها تقريره الذي لا يجب أن يُطرح عليها مباشرة ، وبما يخالف القواعد والإجراءات المتعارف عليها ، لأن تقريره يجب أن يسلك القنوات الشرعية المنصوص عليها قانوناً لتصل لذوي الشأن والمعنيين بها فحسب ، وقد مثل تصرفه هذا خروجا على متطلبات ومقتضيات وظيفته ، وبما يعني أنه قصد تسييس تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات لغرض في نفس بن يعقوب ، أو بالأحرى في نفس المستشار هشام جنينه ، خاصة وأن تصريحاته كانت قرب حلول ذكرى ثورة 25 يناير ، والتي كان يحشد لها جماعة الإخوان الإرهابية أنصارهم وأتباعهم لإثارة القلاقل ، وما زاد الطين بلة أن التقرير احتوى على بعض المغالطات والأخطاء ، حين أعلن المستشار جنينه وعلى عكس الحقيقة: أن تكلفة الفساد خلال عام 2015 تجاوزت 600 مليار ، مما اُعتبره البعض تعمد إذاعة أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالاقتصاد القومي المصري ، وبما يستوجب ويستحق تقديمه للمحاكمة ، و لما أدرك جنينه حجم الخطأ الذي ارتكبه ، تراجع بسرعة عن تصريحاته ونفى أن تكون تكلفة الفساد خلال عام 2015 بلغت 600 مليار جنيه ، وأكد أن هذا المبلغ هو حصيلة الفساد خلال 4 سنوات، بداية من 2012 حتى 2015 ، وأنه ليس هناك حصر رقمي لدى الجهاز حول الأموال التي أهدرها النظام السابق والأسبق وأنه لو تم حصرها لكانت بمئات المليارات ، ولكن هذا التراجع لا ولم يغفر له ، ولا ولم يصحح خطأ من يشغل هذا المنصب الحساس .
يضاف لما سبق أن تقرير المستشار جنينه تضمن وقائع قديمة لا تخص الفترة المُعد عنها التقرير ، وتضمن أيضاً بعض الوقائع التي تم عرضها على القضاء وحكم فيها أو ما زالت منظورة أمامه ، دون أن يشير إلى ذلك .
على الجهاز المركزي للمحاسبات ورئيسه مراعاة الدقة المتناهية عند إعداد التقارير ، ويجب أن تكون تقاريره السنوية معنية بتحديد وذكر ما وقع من مخالفات وانحرافات خلال السنة أو العام المُعد عنه التقرير ، ولا مانع بعد ذلك أن يتضمن التقرير الإشارة إلى حجم الانحرافات عن السنوات السابقة تفصيلا ، على أن يسقط من التقرير كل الوقائع التي حكم فيها القضاء حكما باتا ونهائياً وغير قابل للطعن ، ولا مانع أيضاً أن يتضمن التقرير الإشارة إلى الوقائع الخاصة بسنوات سابقة ولا زالت منظورة أمام القضاء ، بهذا تتوفر القراءة الموضوعية والصحيحة للتقارير.
الجهاز المركزي للمحاسبات هو العين الساهرة على المال العام وهو المخول بالحفاظ عليه وكشف الانحرافات والتلاعبات والاختلاسات وهو الرقيب على السلطة التنفيذية بمؤسساتها المختلفة ، لذا لا يجب أن يكون تعيين أو عزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بيد رئيس الدولة فقط ، لأن رئيس الدولة هو رأس السلطة التنفيذية ولا يستقيم عقلا أن يُعين من سيراقبه ، وحسنا فعل واضعي دستور 2014 ، حين ضمنوا المادة 216 لتقييد سلطة الرئيس في هذا الشأن ، ونصت على « يعين رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية بقرار من رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضاء لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة ، ولا يُعفي أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون، ويُحظر عليهم ما يُحظر على الوزراء »
ويتم عزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات وفق القانون رقم 89 لسنة 2015 الذي حدد حالات الإعفاء ، وهي إذا قامت بشأنه دلائل جدية على ما يمس أمن الدولة وسلامتها ، إذا فقد الثقة والاعتبار، وإذا أخل بواجبات وظيفته بما من شأنه الإضرار بالمصالح العليا للبلاد أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة ، وإذا فقد أحد شروط الصلاحية للمنصب الذي يشغله لغير الأسباب الصحية.
يتبقى أن نشدد على عدم إطلاق يد الرئيس في عزل أو تعيين رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، وفي حالة اقتضاء عزله على وجه السرعة ، يتم دعوة البرلمان لجلسة طارئة وعاجلة لطرح الأمر عليه لاتخاذ قراراً بشأنه .
الوسومحامد الأطير
شاهد أيضاً
خالد المزلقاني يكتب : أوكرانيا وضرب العمق الروسي ..!
مبدئيا أوكرانيا لا يمكنها ضرب العمق الروسي بدون مشاركة أوروبية من حلف الناتو وإذا استمر …