الأحد , ديسمبر 22 2024
رشا ممتاز

شهادتى على تفجيرات بروكسل

رشا ممتاز

عندما قدمت إلى فرنسا , سكنت فى أحد ضواحي باريس ذات الكثافة العربية والافريقية , تلك الضواحي التي شاع تسميتها بعشوائيات باريس !!

و على عكس المتوقع ,  انبهرت في البداية بالسكن الجديد الهادئ فرغم صغر مساحته إلا ان الحديقة التابعة له شديدة الاتساع كثيفة الأشجار وزجاج النوافذ عازل للإزعاج فلا يصلك أي نوع من أنواع الضجيج

 كما ان المبنى جميل والشوارع نظيفة لا توجد بها بلاعات ولا مجارى والكهرباء والمياه لا تنقطع ابدا

ولو لدقيقة بجوارنا سينما ومسرح ومستشفى وملعب و صالة جيم والعديد من الخدمات الترفيهية !

استغربت لتسمية تلك المناطق التي تضاهي أرقى الأحياء فى القاهرة نظافة وجمالاً

 وتخطيط عمراني وخدمات بالعشوائية !

ولكن سعادتي لم تدم طويلاً فسرعان ما تحولت لكابوس بشع دفعني للبحث المتواصل

عن سكن جديد مهما كان الثمن …

فقد استيقظت بعد عدة أيام من وصولي على طرقات الباب , ففتحت ووجدت امرأة  شرقية الملامح

ترتدي الثوب المغربي الجميل و تعرفني بنفسها و بأنها جارتنا التي تسكن فى  الدور العلوي

 رحبت بي ودعتني لشرب الشاي المغربي الشهير , لم ارفض عرضها السخي

وصعدت معها الى شقتها الصغيرة المفروشة بالأساس المغربي الساحر وصبت كوبان من الشاي

وسألتني هل أنا مسلمة فقلت نعم , فبدى عليها الاستعجاب وواصلت باستياء كيف تكوني مسلمة

كيف تصلين ؟

الا تعلمين يا أختي ان الكلاب نجسه وتطرد الملائكة من المنزل ولا يجوز الصلاة  فى صحبتها ؟

انصحك بالتخلص من هذا الكلب فى أقرب فرصة ممكنة لأنه لن ينجس فقط شقتك

ويطرد منها البركة والملائكة ولكنها سينجس العمارة بأكملها !

وقعت كلماتها علي كالصاعقة وحاولت دون جدوى أن اجعلها تصفح عن الكلب المسكين

وزادت صدمتي عندما عرفت أن تلك العقلية المنغلقة  رغم مظهرها المتحرر تعمل فى احدى المدارس الإبتدائية  بالمنطقة !

ثم توالت المفاجات  لاكتشف بعد ذلك أن جارنا المصري يؤجر سكنة الاجتماعي المدعم الذي تدفع

الحكومة الجزء الأكبر من إيجاره لأنه بلا عمل لخمس شباب بلا أوراق إقامة شرعية !!

مقابل 250 يورو للفرد بينما  تجلس العديد من الأسر بلا مأوى فى  إنتظار سكن مدعم !

وعندما نبهته يوما بأن ما يقوم به مخالف للقانون قال لي بشكل صريح أنه لا يأبه بقوانين الكفار وإن سرقة الكفار غنيمة !

وبين ساكنة الحي الجزائرية الحسناء التي ترتدي ملابس مثيرة دفعت شباب المنطقة الغيور أن يتحرش بها ويعتدي عليها لترتدع وتلتزم بالزي الشرعي  مهددينها  بأنها إن استمرت ستلقى مصير شهرزاد وعندما سألت من هي شهرزاد وما هو مصيرها أكتشفت انها فتاة شابة لا تتجاوز ال 18 ربيعاً كانت تسكن فى منطقة مشابهه  وقد سكب عليها صديقها المسلم الغيور الجاز واحرقها حية لأنها تريد ان تنهي علاقتها به !

وبين جارتنا التونسية التي انجبت عشرة أبناء والحادي عشر, قادم فى الطريق لتحصل على مبلغ الضمان الاجتماعي المخصص لكل طفل وتسكن فى سكن واسع لأن مساحة السكن المدعم تتناسب طرديا مع عدد الأطفال وتشتري سيارة على نفقة الدولة وتحصل على كوبونات غذائية مجانية , ثم تسرحهم يتبولون ويتبرزون فى الحديقة الجميلة ويشوهون جمالها ورائحة زهورها العطرة ويحطمون بكرة القدم زجاج نافذتي العازل !

وكان الاكتشاف الصادم  بالنسبة لي هو نموذج الشاب ذو الأصل الجزائري الذي يبيع المخدرات فى الحي ولكنه يبيعها فقط للفرنسيين ويرفض بيعها للمسلمين لأن إلحاق الضرر بأخيه المسلم حرام أما اذية الكفار فحلال بل تعد جهادا في سبيل الله لهذا كان أول من يذهب ليصلي فى الجامع ! , وربما هذا يفسر اتجار اغلب المتورطين فى  العمليات الإرهابية في المخدرات !

وبعد أن وصل الحال من الجيران إلي تكرار محاولة تسميم كلبي وتبادل محاضر الشرطة بل وتهديدي بالقتل أنا وزوجي في داخل منزلنا بعد إقتحامه  من البلكونة من قبل جارنا الجزائري المتدين! مفتول العضلات الذي يعمل فى  حارسة احد الكازينوهات الليلية ! إن لم نتخلص من صديقي الوفي الذى كل ذنبه ان احد الكلاب من فصيلته كان مكروها من ابو هريرة منذ اكثر من الف عام !

و أخيرا قررنا الرحيل من الحي العشوائي فالعشوائية الأخطر محلها العقول ! , بعد أن اشترينا بصعوبة وبعد بحث سنوات بيت اخر يبعد 80 كيلو متر عن العاصمة في قرية فرنسية خالصة وهناك وبعد تلك التجربة المريرة وضعت يدي لأول مرة على عصب المشكلة التي تدفع المهاجرين لرفض الاندماج وتجعل اجسادهم قنابل موت موقوته تحصد أرواح الابرياء !

فالأرض هي الأرض والسماء هي السماء والبلد هو البلد والحكومة هي الحكومة بل ان الخدمات المتوفرة و المقدمة فى سكني القديم أفضل الف مرة من السكن الجديد ولكن الإنسان ليس هو الإنسان !

فقط 80 كيلو متر كانوا الحد الفاصل بين زمنين , بين نوعين من البشر ,بين عقليتين ….

الحد الفاصل بين إنسان العصر الحديث وانسان العصور الوسطى , 80 كيلومتر بحجم ثلاثة أو اربعة قرون بأكمها !

لا تصدقوا موضوع الاضطهاد وصعوبة الاندماج والعنصرية والتهميش فالجالية الأسيوية تعادل فى عددها الجالية العربية وتعيش فى نفس الظروف بل أسوء لصعوبة تعلم اللغة الفرنسية بالمقارنة بالجالية المغربية التي تجيد الفرنسية ومع ذلك لم نراهم يشكون العنصرية و التهميش او يفجرون أنفسهم فى المارة !

لا تصدقوا المبررات التي تقول كل شىء  لتبريء الذات و تلقى باللوم على الآخر ولكنها تبتعد تماما عن الشيء الوحيد الواضح وضوح الشمس وعن جوهر واساس المشكلة بل الكارثة الحقيقة الا وهي اننا لازلنا نعيش بعقلية العصور الوسطى مهما ارتدينا قشور الحضارة ومظاهرها ! كل ما عدا ذلك مجرد اعراض وتوابع لتلك الحقيقة المرة .

**لازلنا سجناء العقلية المكبلة الضعيفة الغارقة فى الخرافة والغيبيات البعيدة عن العقل والمنطق التي تمجد الموت وتكره  كل مظاهر الحياة , التي ترى الحاضر والمستقبل بعيون ونصوص ومرجعية الماضي السحيق …

**العقلية التي تضطهد مخلوق لطيف وتحاربه لأن هناك نص منذ أكثر من الف عام قد اقر بأن هذا المخلوق مضطهد ! و تحابي مخلوق آخر لان هناك نص مقدس كرمه !

العقلية التي لا تعترف بأن هناك إنسان واحد له حقوق وحريات مقدسة بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه وفكره ولكنها تقسم البشر والعالم على أساس ديني مذهبي طائفي , وطائفتي هى الأرقى وما عدا ذلك مباح دمه لأنه لا يرقى لدرجة انسان !

العقلية التي ترتعد وتخشى من النقد و الفكر والكلمة وتقيم محاكم التفتيش وتبحث فى النوايا وتقصف الأقلام وتصادر الكتب وتطحن الانسان وتقدمه قرباناً لأصنام المقدسات !

العقلية التي يمكنها ان تتحول الى أشلاء متطايرة تحصد أرواح الابرياء فقط لأنها ترى أن هناك نص ديني مقدس دعاها لكراهية واحتقار الاخر المختلف عنها !

العقلية المنغلقة على ذاتها الغارقة فى التراث التى تنتفض وتثور وتسير المظاهرات وترفع السلاح لا لتنتصر لواقعها وانسانيتها ولكن لتثأر لشخصيات تاريخية ماتت منذ أكثر من ألف عام !

العقلية التي تشن الحروب بكل بشاعتها فى القرن الواحد والعشرين من أجل تصفية الحسابات التاريخية بين السنة والشيعة !

تجاوزات اوروبا المسيحية مرحلة القرون الوسطي التي كانت تشبهنا فيها وعبرت الى الشط الآخر بسلام بعد أن مرت بالنهضة ثم بالتنوير ثم العلمانية والحداثة , أما نحن فلازلنا غارقين فى  وحل تلك العصور بكامل همجيتها وقصورها العقلي خاصة بعد أن كشفت ثورات الربيع العربي الغطاء عن العفن الموجود تحتها لتظهر لنا داعش والإخوان والسنة والشيعة وكافة الحروب المذهبية و الطائفية المشتعلة فى المنطقة ..

ولازلنا نصوغ المبررات لنمد أجل العصور الوسطى وندعي ان كل ذلك العفن التراثي المتراكم هو مؤامرات غربية علينا هرباً من مواجهة الحقيقة المرة !

ولازلنا نخشى الحداثة و ترتعد فرائصنا خوفاً من التفكير و التنوير , حيث لا مقدس فوق النقد ولا سلطان على العقل إلا العقل .

إذا اتفقت معي عزيزي القارئ على هذا فيمكنك حينها استيعاب سوء التفاهم الدائم الذي لمسته شخصيا في نقاشاتي مع المثقفين الفرنسيين بين الغرب والشرق ..

فمن الصعب على إنسان العصر الاوروبي الحديث الذي ولد وتربى على مبادئ العلمانية والعقلانية وحقوق الانسان وحرية العقيدة والمساواة, ان يعود الى الوراء ويعبر اربعة قرون من الزمان

 ليستطيع ان يفهم عقلية اجداده  فى العصور الوسطى ويتوقع ردود افعالهم ..

 لان هناك فترة زمنية طويلة  فاصلة بينه وبينها

فلم يعد يربط الانسان الأوربى  أي صلة ان كانت بتلك العصور السحيقة

وبالتالي من الصعب عليه فهم تفكير الإنسان الشرقي الذي لازال يعيش فيها ..

ولكي اقرب لك الصورة تخيل انني اطلب منك ان تستعيد مشاعر

 وأسلوب تفكير إنسان العصر الحجري وتتوقع ردود افعاله وتتفهم عقليته وتتعامل معه على اساسها …

الأمر غاية  فى  الصعوبة وليس سهل كما نتصور جميعا, فإذا قابلت انسان قادم من العصر الحجري

فأنك ستتعامل معه بأدوات وتفكير عصرك انت لا عصره هو

 لهذا نرى الفجوة والتخبط وسوء التقدير الدائم بين الغرب الحديث والشرق الأوسطي

 ولهذا استيقظ الغرب على كارثة المهاجرين العرب والمسلمين ولن تنتهى المفاجأت  والكوارث ..

والى الان لا يستطيع الانسان الغربي استيعاب الدافع الذي يجعل شاب يفجر نفسه فى الابرياء ويفقد حياته ويحصد ارواحهم سوى الجنون ..

لا يستطيعون استيعاب فكرة ان يلغي الانسان عقله ويسير خلف نصوص تراثية قديمة توجهه نحو الهلاك..

وسيواصل اخطاءه وفتح ابوابه لجموع قادمة من الماضي السحيق , ستعيش وسطه وتحمل فى عقولها قنابل موقوته تدمر كل مظاهر حداثته وتحضره .

فلم تعد أزمة الوعي والعقل العربي والإسلامي مع الحداثة مقتصره على ذاته فقط ولكنها اتسعت لتهدد العالم بأسره ..

وفى ختام شهادتي على الاحداث لم استغرب ان يكون احد المتورطين فى  أحداث باريس وبروكسل كان ر.ك  جارنا الشاب , فى الحي الذي كنت اسكنه , كان حريصاً على ذهابه للمسجد القريب ليستمع لخطيب الجمعة الذى كان يداوم على ختام خطبته بأن يردد على مسامع الحاضرين بصوته المؤثر الباكي الحديث التراثي القائل

 توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت..

حديث اعتدنا سماعه على منابر مساجدنا كغيره وحفظناه جميعاً فى اللاوعي دون نقد أو رفض أو تفكير .. بل نسجن ونكفر كل من يحاول نقده والتفكير فيه كما حدث مع اسلام البحيري وغيره !

كلنا ر.ك ولكن الفارق الوحيد انه لم يقتصر على الحفظ والتلقين ولكنه تشجع وكره الحياة وأحب الموت و قرر ….. التطبيق .

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.