عالم افتراضى
27 مارس، 2016 مقالات واراء
مدحت موريس
طالت جلسته لساعات امام اللاب توب – صديقه ورفيق دربه – يتصفح الانترنت ثم يعلق على تويتة من التويتات لاحد من يتابعهم على تويتر ثم يعود الى قاعدته الاساسية المفضلة بصفحته على الفيس بوك لينشر مجموعة من البوستات المتتالية….بوستات تختلف عن بعضها البعض ولا تتعلق بامر واحد اوحتى بمجال محدد احدهم خبرى منقول عن احدى المجلات يتعلق بارتفاع سعر البنزين وآخر طبى يتناول اعراض احد الامراض المكتشفة حديثاً ، ثم بوست يسخر من هزيمة الفريق الرياضى المنافس وبوست آخر يتضمن قولاً مأثوراً لشخصية فذة رحلت عن عالمنا واخيراً بوست شخصى يكتب فيه رأيه و ينتقد اوضاع البلاد السياسية وينصح بتغيير الوزير الفلانى ومحاكمة السفير العلانى. انتظر دقائق حتى تتوالى اللايكات والتعليقات والتى تزداد مع تزايد عدد الاصدقاء على صفحته الحبيبة …
الفيس بوك هو كائن اجتماعى بطبيعته يحب الناس ويعشق العلاقات العامة وكان اجدى به ان يعمل فى مجال العلاقات العامة لكنه للاسف لم يكتشف موهبته هذه الا مؤخراً موهبة التعامل مع الناس والتواصل معهم اكتشفها من خلال تعاملاته الكبيرة من خلال صفحة الفيس بوك….وكثيراً ما اشتعلت صفحته بالحوار والجدل حول موضوع طرحه او رأياً ابداه. لكنه للاسف يعمل فى مجال بعيد كل البعد عن مجال العلاقات العامة فهو مهندس كيميائى يقضى يومه بين المعامل والتجارب وتحليل التربة وكتابة تقارير فى هذا الشأن. وما ابعد تحاليل التربة عن العلاقات الانسانية والمشاعر والاحاسيس البشرية. حتى زملاء العمل يبدو انهم تأثروا بطبيعة العمل فصارت احاسيسهم متبلدة اشبة بطبيعة التربة الحجرية ومكوناتها الصلبة…لهذا افتقد الاحساس الذى يحبه فى مجال عمله بل وكثيراً ما ادعى المرض ليستخدم حقه فى استخدام الاجازات المرضية ويظل فى المنزل بجوار جهازه الاثير..واذا خرج لينعش نفسه فى الهواء الطلق فلن يذهب الا الى مكان لديه واى فاى لكى يضمن ان يأخذ جهازه معه ويمارس حياته اللاب توبية او الفيس بوكية بل انه ومن شدة تعلقه باللاب توب اصبح يصحبه معه الى العمل ويستخدمه فى فترات الراحة او فترة الغذاء بل وكان احياناً يضعه فى المعمل ويختلس الدقائق لمتابعته…
حتى وبخه رئيسه يوماً ما وحذره من استخدام جهاز اللاب توب الشخصى داخل العمل ولانه شخص غير تصادمى فقد آثر السلامة ولم يعد يأخذ اللاب توب معه الى العمل…لكن تليفونه المحمول ادى نفس الوظيفة بامتياز دون ان يتنبه لذلك رئيسه فى العمل. وهكذا مضت الحياة به هو سعيد بها ويظن ايضاً ان الحياة سعيدة به….و بحكمة فى غير موضعها ظن وقال بل وآمن ان الحوار من خلف اجهزة الكمبيوتر يجعل الانسان اكثر جرأة فيظهر للجميع على طبيعته دون تزييف او تجميل….واستشهد بقوة وقدرة تلك الاجهزة بأنه من خلالها وعن طريقها قامت ثورات اسقطت رؤساء وانظمة وحكومات. تحول جهاز التليفزيون فى منزله الى قطعة من الجماد لا تصلها الكهرباء …ولماذا يشاهده وجهازه السحرى يغنيه عن الف جهاز تليفزيون..الجريدة الورقية لم يعد يشتريها او يحاول النظر اليها فكل ما تحويه يعرفه قبل ان تنشره تلك الصحف والمجلات…
بل ان خروجه من المنزل قد قل الى حد كبير اللهم الا ذلك الوقت الذى يقضيه فى العمل ولو كان الامر بيده ولولا احتياجه الى المرتب لانقطع تماماً عن الذهاب الى العمل وتفرغ لحياته الجديدة المثيرة. هل صار مثل جده الذى كانوا يتندرون عليه بالقول بأنه كان كائناً بيتوتياً؟ بمعنى انه يفضل دائماً البقاء داخل البيت…..ليكن لكن الفارق الكبير بينه وبين جده ان الجد كان يقضى الوقت فى البيت دون ان يصنع شيئاً مفيداً بينما هو …يصنع الكثير…انه يبنى علاقات مع الناس..قال هذا لنفسه وهو ينظر الى عدد اصدقائه على الفيس بوك لقد وصل عدد الاصدقاء الفيسبوكيين الى 647 صديق…والبقية تأتى وسيتضاعف هذا العدد اكثر من مرة فلكل صديق قائمة اصدقاء وهم بالتالى اصدقاء مرتقبون. اعد احصائية لعدد اللايكات والتعليقات لكل بوست اضافه او شيره بل وكتب اسماء من يضعون اللايك ومن يعلقون عليه لكى يصنف ميول الاصدقاء وبالتالى يزيد او يقلل او يبدل من نوعية البوستات حسب ميولهم فاهم شىء لديه هو زيادة اعداد اللايكات والتعليقات فهى المعبر عن مدى تجاوب الناس معه.
اضطر لترك جهازه الحبيب والخروج لشراء بعض الاطعمة..
فذهب الى اقرب متجر ليشترى ما يحتاج وعلى مدخل المتجر رأى امرأة تخيل انه يعرفها..فهز رأسه مبتسماً فهزت رأسها دون ابتسام ومضت فى طريقها مغادرة للمكان …حاول ان يتذكر من هى لكنه فشل لدرجة انه ظن انه بالفعل لا يعرفها ولم يلتقيها من قبل…انتهى من التسوق وعند ماكينة الحساب نظر للموظف الجالس عند الماكينة الذى ابتسم له مرحباً ونظر اليه كثيراً محاولاً ان يتذكره فهو متأكد انه يعرفه جيداً وقد اضافه الى قائمته منذ اسابيع قليلة حاول ان يتذكر اسمه لكن عبثاً….خرج من المتجر ووضع مشترواته بالسيارة ثم قاد السيارة نحو المنزل وعند توقفه فى الاشارة لمح قائد السيارة الواقفة بجوار سيارته…يعرفه جيداً ويحفظ صورته بل ان القميص الذى يرتديه الآن هو نفس القميص الذى فى صورته بالفيس نظر اليه والتقت اعينهما للحظات قبل ان ينطلق الرجل بسيارته دون ان يظهراى تعبير على وجهه. عاد الى منزله وقد استثاره ان يلتقى ثلاثة من اصدقاء الفيس ولا يعيرونه اهتماماً…
هناك شىء ما خطأ. وضع مشترواته بسرعة جانباً وفتح قائمة الاصدقاء على صفحته وتأكد من وجود التلاتة ضمن القائمة…فكر ان يكتب لهم على الخاص ليسألهم عن سبب تجاهلهم له لكنه تراجع عن ذلك احتراماً لنفسه من جهة ولخشيته من ان يظنوا به سوء خاصة وان بينهم امرأة قد تظن انه يريد اقامة علاقة ما معها. لكن خطر بباله امراً آخر تحمس له جداً….
ودون تردد وضع بوستاً جديداً يدعو فيه الاصدقاء فى قائمته الى لقاء فى الحديقة العامة…نعم فى الحديقة العامة فاى مكان سيستوعب هذا العدد الكبير من الاصدقاء غير الحديقة العامة فبعد استبعاد من يقيمون خارج البلاد من الاصدقاء يتبقى 495 صديقاً مقيمين فى نفس المدينة…حدد المكان وحدد ايضاً الزمان واعتذر القليل من الاصدقاء اما الغالبية العظمى فابدوا حماساً يفوق حماسه. وانتظر يوم لقاء الاصدقاء ولاجل ان يجعل الامر اكثر اثارة كان يضع كل يوم بوستاً جديداً يكتب فيه عداً تنازلياً للقاء الاصدقاء وتوقع بعد اعتذار البعض لظروفهم الخاصة ان يتجمع بالحديقة ما لا يقل عن 460 صديقاً…وياله من امر مثير….
فى اليوم الموعود ذهب الى الحديقة العامة قبل الموعد بساعتين وجلس على احد الارائك وقد وضع عليها لافتة صغيرة كتب فيها ” لقاء اصدقاء…ابن المدينة” وابن المدينة هو اسم صفحته على الفيس. ومضت الساعتان ..ولمح بعض الناس ينظرون اليه من بعيد ثم يمضون…ومضت ساعة وتلتها ساعة اخرى واتى شاب يسأله …انت ابن المدينة؟ اجابه نعم ثم نهض وصافحه…ثم نظر الشاب اليه مبتسماً فى بلاهة وقال…يااااه ده انت شكلك فى الصور اطول من كده….وما اغاظه اكثر انه نطق كلمة الصور بكسر الصاد!!! ثم اضاف الشاب هو انا بس اللى جيت ولا ايه….
لكن مجىء فتاتان حفظ ماء وجهه امام الشاب وسألت احد الفتاتين ان كان هو ابن المدينة فاجاب نعم ثم لزمت الفتاة الصمت وجلست بعيداً مع صديقتها التى لم يتبين انها من ضمن قائمته ام لا….وتوالى الحضور على مدار اربعة ساعات ليصل عدد من حضروا من الاصدقاء الى سبعة.!!!! سبعة فقط من توقع بلغ 360 على الاقل…ولم يقل السبعة باستثناء الشاب الاول اكثر من جملة فرصة سعيدة….ثم ذهبوا جميعاً بل ان بعضهم غادر المكان دون اخباره بذلك. وجلس وحيداً فى الحديقة العامة واخرج هاتفه المحمول وفتح صفحته على الفيس ويراجع بقائمة الاصدقاء السبعة الذين التقاهم اليوم ليكتشف ان السبعة الذين تضمهم قائمته يختلفون تماماً عمن رآهم اليوم…
وامتدت ابتسامة ساخرة على شفتيه شعر انها غطت وجهه كله.. وتذكر مقولته الفاشلة لنفسه بأن الناس تظهر على طبيعتها من خلال الانترنت….وتذكر ايضاً بأنه على الرغم من ان من جلسوا خلف الاجهزة اسقطوا رؤساء واشعلوا ثورات الا ان تلك الثورات نفسها كانت ثورات فاشلة. وعاد الى قائمة الاصدقاء وشاهد السبعة الذين رآهم اليوم شاهدهم وهم يكتبون تعليقاتهم وهو يكاد يتخيلهم ويسمع اصواتهم لكن صورهم واصواتهم ليست هى الصور ولا الاصوات التى رآها وسمعها فى الحديقة العامة لكنها صور واصوات اخرى رآها وسمعها فى عالمه الافتراضى الذى عاش فيه.