الحريـة:الجزء الأول1
هي أثمن ما يحصل عليه إنسان العالم من لَدُن الله.
فالإنسان يُولَد في العالم عبداً، بعكس المَثَل الشائع أن الناس ولدتهم أُمهاتهم أحراراً، فهذه حرية الطبيعة الحيوانية. الحرية الطبيعية أن يفعل الإنسان ما يشاء بحسب الغريزة الطبيعية التي جُبِل عليها وارثاً إيَّاها بقوانين وراثية شديدة الإحكام والتحكُّم. فما كان يفعله الإنسان منذ آلاف السنين حينما يولَد ويحبو وينتقل لدور الصبوة والشباب في حياته الأُسَرِيَّة، يفعله اليوم. كل ما هنالك أن بعض العادات في أُمَّةٍ ما تُخالِف بعض العادات في أُمَّةٍ أخرى، وبعض العادات في أُسرة تُخالِف بعض العادات في أُسرة أخرى. ويتحكَّم في كل أُمة بعض التأثيرات الموروثة: التأثيرات المكتسبة، بفعل الترقِّي في سُبُل التعليم والتهذيب والثقافة والمُلزمات الدينية المفروضة.
ويتحكَّم في كل أسرة بعد التأثيرات التقليدية المكتسبة من الجدود، التأثيرات المكتسبة بفعل تأثيرات المجتمع والأحكام والقوانين التي تفرضها الحكومات على شعبها بغية وضع الأُمة في قالب معين يتناسب وطموحاتها العسكرية أو الدينية أو الثقافية. كما يتحكَّم في أفراد كل أسرة، سلطان الأب والأُم الذي يختلف اختلافاً بيِّناً في المزاج والتعليم والثقافة، فيشبُّ العضو في الأسرة متأثِّراً بمزاج الأب والأُم ومدى تعليمهما ودرجة ثقافتهما.
ومن حصيلة هذه المؤثِّرات جميعاً يخرج المواطن وعضو الأسرة، ملتزماً بقالب الأُمة، وملتزماً بقالب الأُسرة، خاضعاً لمبادئ عامة وخاصة، متهذِّباً بتقاليد عامة شعبية وتقاليد خاصة أُسرية في نطاق يتَّسع أو يضيق بحسب التزام الفرد بهذه التقاليد والتعاليم العامة والخاصة، الشعبية والأُسرية والمدرسية والدينية. ولكن تظل حرية الفرد محدودة في أضيق الحدود كما في طوق حديدي يتَّسع ويضيق، ولكن يظل طوقاً حديدياً له سماته في كل أُمة وكل أسرة، لا يخرج عنه الفرد وإلاَّ نبذه المجتمع ونبذته الأسرة. هذه هي حدود الحرية الطبيعية التي يُولَد بها ولها الإنسان من بطن أُمه. وبالرغم من ذلك خرج المَثَل الغاش أن الناس يُولَدون أحراراً من بطون أُمهاتهم، مع أن العبد يُولَد من بطن أُمه عبداً، والأمير يُولَد من بطن أُمه أميراً، والوثني يُولَد من بطن أُمه وثنياً، واليهودي يُولَد من بطن أُمه يهودياً. كذا المسلم، وكذا المسيحي، وكذا اللاديني.
وفي وسط هذا الخِضَم من العبوديات للأوطان وتقاليدها، والأُسَر وتقاليدها؛ وُلِد ابن الله من عذراء قديسة بلا أب، وإنما من الروح القدس، وكان الله أباه!
وهكذا غَزَت السماءُ الأرضَ، وأدخل الله على البشرية عنصراً إلهياً جديداً كل الجدَّة لا يمتُّ إلى الأوطان بصِلَة ولا يلتزم بأي أُسرة بأية صِلَة.
كان الإنسان قبل دخول الابن إلى العالم، كل إنسان، عبداً للعالم، عبداً للوطن، عبداً لمواريث وتقاليد الأسرة. وكان العالم محكوماً بخطية آدم التي أفسدته، وكان الوطن محكوماً بالعالم الذي أفسده، وكانت الأُسرة محكومة بالوطن الذي أفسدها؛ والذي يحكم الجميع تأثيرات الخطية التي أملاها الشيطان على رأس جنس البشرية، آدم، وأدخلها عنوة على الإنسان، كل إنسان، وأفسده، فاستقرَّت فيه وأفسدته برضاه.
ومن أجل هذه الضلالة الجبرية وإفسادها الذي استَشْرَى في الجميع، والتي استقرَّت في الإنسان وقَبِلَها الإنسان دون أن يُقاومها، بل ارتضى بها واستلذها فغواها، ثم أحبَّها، ثم تعبَّد لها؛ أرسل الله ابنه إلى العالم ليرفع عبودية العالم والأوطان والأُسَر من فساد الخطية وعبوديتها بكل صورها العامة والخاصة!
فهل يأتى فئة من البشر مثل اليهود قديمآ ويفعلوا كسر لهذة الحرية ويرددوا مثل أبائهم اليهود.. لما اعترضواعلي المسيح متوهِّمين بالمَثَل الوهمي الكاذب أنهم أبناء إبراهيم ولم يُستَعبَدوا لأحد قط: «أجابوه: إننا ذُرِّيَّة إبراهيم ولم نُستعبَد لأحدٍ قط.كيف تقول أنت: إنكم تصيرون أحراراً» (يو 33:8)؛ هنا كشف المسيح عن إرساليته من عند الله أبيه إلى العالم، وقد عرفنا عن العالم من المسيح أنه كان موضع حب الله: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3
إذ الكل قد فسدوا وزاغوا وأعوزهم مجد الله. فقد استشرت الخطية بكل أنواعها وأشكالها، واستقرَّت في كل كيان الإنسان، وسخَّرت نفسه وروحه لعبادة أوهام وأباطيل الخطية تحت صور وأسماء وأخلاق ومبادئ وديانات وعقائد تخدم الخطية نفسها في الجسد وكأنها إله يُعبَد إمعاناً في تزييف الحق. وفي وسط هذا التزييف المُحكَم والمُرعب الذي يسود العالم، دخل الابن إلى العالم حاملاً رسالة الله الآب ليضع أساس الحق الواحد الوحيد بقولته إنَّ: «الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا… لأن الآب طالبٌ مثل هؤلاء الساجدين له… تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يو 4: 24،23).
وهكذا كان أول إعلان سماوي بهدم العبادة بالجسد والجسدانيات التي سيطر عليها الشيطان منذ آدم وكل ذريته، وبثَّ فيها مفاعيل الخطية والشهوات. وهكذا، وبكلمة واحدة، نحَّى المسيح عبادة الذبائح الحيوانية، وعبادة التطهيرات، وتخريجات الناموس من غسل الجسد وأعضاء الجسد بالماء تطهيراً من نجاسة ودنس. وبذلك ألغى المسيح من كل ناموس موسى كل تخريجات التطهيرات من النجاسات جملةً وتفصيلاً: فمن أين تعيدون ما أبطلة المسيح مغيرين الشكل من الذبيحة الحيوانية لتمثيلها بقربانة وخمر …
وللمقال بقية أنتظروا