الأربعاء , نوفمبر 20 2024

تلك الجدران العالقة

بقلم : نانا جاورجيوس

تلك الجدران هي هي، أتأمل همسها وما تؤنسني به، تحمل نفس ألوانها التي لم تتغير طيلة هذه السنين، لم أنم ليلتي، أنتظرت أن يأتني نهاري. أفتح خزانتي لأوقظ أعماق مدافني فأعيش الغياب و صوته يصل لمسامعي في خفاء الليل، ، و كيف كان يمد يديه الدافئة قبل أن تباغتنا لمعة الضوء و تتسلل رجفات الطفولة،و رائحة حقول الخزامى والنرجس التي تُدخِلنا أرضها كل مرة.

استجمع ذاكرتي وألملم جراح السنين وعزلتي. أتذكر كيف إختار لي فستاني المطرز وحذائي الأبيض الفضي و عطر فرحنا. سيأتي بعد قليل ليسحبني من يدي لليلة العُمر. ولن أقول فيما بعد أني هنا وهو هناك، فلا مسافات بيننا تمنعنا، ونغمة الإيقاع لا تتعجل ولا تتمهل صارنا في كلانا، نصنع عطر أفراحنا، ننثره في معابد ربّات الجمال، نروي به ظمأ الآلهة وقلوبنا العذراء التي لم تعرف إلا لهفة الحنين وبقايا أبجديات المستحيل.

كل شيء مُعِد وموضوع بأمكنته، علبة سجائره الفضية والولاعة بجوار الأباجورة على المنضدة المركونة خلف ستائر الشرفة الشفافة المطلة على البحر. جلست على الكرسي الخيزران بشُرفتي أستعيد شريط حياتي، أعرف وقع خطواته وهي تدنو عند مطلع الطريق، بالإتجاه الذي سارت فيها خطواته آخر مرة في الثانية صباحاً من تلك الليلة، كيف يتأخر عن موعده؟!.

الليلة سأرتدي ردائي الأحمر الذي كان يحب أن يراني فيه وهو يغلق لي سحابه ويقول الأحمر لا يليق فقط بكِ بل كل ألوان الربيع تشتهي ملامحكِ.

لم يتغير شيئاً، الفِراش دافئاً حتى ليلة البارحة، ليحكي البحر قصيدته تلك كما كانت: في البدء كنتُ وكنتِ قبل بدء الخليقة، فرسمتكِ وردتي الحمراء بين يدي، كشقائق النعمان البرية في ربيع مارس، كبرتِ و تفتحتِ فوق مذبح مدينتي وتحت قطرات سمائي صارت نجمتنا حين تناولنا عشائنا الأول والأخير، تشبهنا لغتنا الأولى وحلمنا الأول و طقوس خطواتنا الأولى حين تتراقص، بل و في المرة الأول رأيتك كصدفة فينوس ملفوفة في رغوتها الهاربة من وراء شلالات عبير الخزامى وأضوائها البنفسجية، تشعل ليلتنا شمعتنا الأخيرة. ويديك الناعمة تلك ممسكة بيدي تقودني وترافقني خطواتي.

أتأمل ملامح وجهه النائم ويده تلفني، غارقاً في هدوء سكينته كطفل في مهده، أخاف أن أتلمسها لئلا أوقظ غفوته، أحبس أنفاسي،لأستمع لهمس أنفاسه كفراشة تنثر رحيقها في ملامحي تؤنس ليلي، أدس عيوني فيه فأغفو فتتحسسني يداه ليطمئن أني بجانبه.

أحدق في مرآتي، مهما قالت من كلام سأكذبها لأجله، فالحقيقة شيء أخر نعرفها بل عِشناها، أُكذب كل هذا العمر الذي يملأها في غيابنا، لأختزل كل تلك البحور والمحيطات. أُسائل صمتي: أمازلتَ تحبني كزنبقة حمراء تتفرط أوراقها الممزقة بين يديك؟. مازلتُ أشعر بيديك تعبرني لتنثر وهج الضوء حين تنحني أوراق الربيع تقبِّل التربة كي تعود إليها الحياة. صمتُ، فالصمت جواب القلوب الموجوعة.

ثقلت عزلتي في ليالي الشتاء وصقيعها، رُحتُ أبحث في خزانتنا عن أشيائنا علها تمنحني سكينة وطمأنينة وألفة جدران البيت، ساعته الذهبية التي نسيها آخر مرة وعقاربها تشير للحادية عشر ذات أحد الأماسي من تلك الليلة التي خرج فيها آخر مرة. كلما سبقني الحنين أمد يدي لدفتر مذكراته اليومية، و رائحة الحبر المطمخة بعطره الليلكي الذي يأسرني، تركني أصارع ذكرياتي حين توقفت الحياة بنا، و رياح عواصف الشتاء تضرب أبواب البيت كلما إرتفع موج شط إسكندرية فتتناثر رذاذه فوق زجاج الشرفة. و الوقت أصبح يمر بي ولا يمر، وهاتفي لم يعد يرن بمواعيده، أصابت رناته عطب الفقدان وصمت الغياب.

غادرني قبل أكثر من عشرين سنة، وبعد أن قبَّل وجه سوسن و عينيها و جبينها وأحتضنها بعنف وهو يضعها في فراشها بعد أن ملأ عينيه بصورتها كأنه يطبعها في ذاكرته المحملة برائحة غامضة وحده من كان يعرفها، قال: هذه السفرة ثقيلة و تقبض قلبي و سوسن هتوحشني كثيراً، أوصيكِ كثيراً بها، خلي بالك منها. غادرني وهو ينظر إليَّ نظرة طويلة لم أفهم معناها لحظتها سوى إحساسي بلمسة و داع دفينة تملأ عينيه ربما شفقة أو فقدان و بعض الخوف. خرج من الباب بإتجاه الميناء مرتدياً زيه البحري.

كانت هذه آخر صورة إلتقطتها ذاكرتي قبل سنوات طويلة و حياة مملوءة حب وسكينة و أمواج زرقاء، حين كانت سوسن بعمر ثلاثة سنوات ونصف، وبعد أن قام بإلحاقها بالحضانة المدرسية. كيف نسيها كل هذه السنوات؟! هاتفني خلالها مرتين، وفي المرة الأخيرة شعرت بصوته مختلفاً عن كل رحلاته السابقة و التي كان يأخذني فيها معه لنلف العالم خلال سنواتنا التي عشتها معه، زفراته مخنوقة، تتلاشى عن أذني و يخفت صوته حتى كدت أسمعه بصعوبة لبُعد المسافة. أخبرني أنه سيتأخر قليلاً و يتخلف عن رحلة عودته. ولم يتصل ليبدِ أسباب لتأخيره.

باب الغرفة يُفتح ليقطع شرودي ويختزال كل هذه السنين المتراكمة في القلب، وشريط الذاكرة يمر أمام عيني كل يوم وكأن كل ما حدث كان ليلة البارحة؛ ماما: حلو فستاني الأبيض فيّ ؟، أنتِ لسة مجهزتيش، ماما قلتيلي بابا هييجي من سفره يوم حفلة تخرجي، والنهاردة فرحي، ليه مش بيكلمنا، ليه مش بيزرونا ؟! إحنا إتأخرنا وأسامة عريسي والمعازيم مستنيينا.

قطعت سوسن المسافات التي أخذتني تلك اللحظات السريعة وأختزل صوتها الزمن في لمح البصر، وكأنها كانت تحس بما يخالج عزلتي وألمي، لحظة أن رفعتُ عيني إليها أتأملها كم هي رائعة الجمال، بيضاء كالثلج برداء زفافها ويداها كانت كحمامتين ناعمتين في الجوانتي الأبيض، و وجهها يلمع بالنور،كان يحلم أن يراها في تلك الليلة كما حلمنا بيوم زفافنا. نظرتُ إليها وقلت في نفسي: الحمدلله أن الحلم باق !

أهكذا رحلتَ دون أن تخبرني. صمتُ، فلم يعد يصلني إلا حنين الأيام وحزن غيابه وأيام تتوالى مسرعة كلما بكى الحنين. كنت في حاجة ماسة إليه في هذا اليوم ليكون بجانب سوسن يأخذها من يديها كما أخذني ويسلمها لعريسها. كيف نسيّ أنها بعد أن تذهب لبيتها وحياتها الجديدة، سيأتي هذا اليوم عليّ والذي سأصبح فيه وحيدة حين تغادرني وتتركني بين جدراني العالقة حتى تغلق الأيام أبوابها عليّ. ليصبح هو بلا وطن وأصبح أنا إمرأة بلا ظل، بلا قبر، بلا ذِكرٍ. أهكذا قال البحر ليكن غياب؟ لا أدري! فليكن ما يقول.فهو بحر مستحيلاتنا الذي كان شاهداً على جدران هذا البيت.

شاهد أيضاً

المصريون يعتقدون بأن “الأكل مع الميت” فى المنام يعني قرب الموت .. وعالم يؤكد بأنه خير

يستيقظ جزء كبير من المصريين باحثين عن تفسير ما كانوا يحلمون به بالليل بل ويقضون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.