الأحد , ديسمبر 22 2024

القضاء في الإسلام والقانون .

المستشار خالد السيد
المحامي بالنقض والدستورية والإدارية العليا
إن الشريعة تمثل القاعدة الأساسية المنظمة لجميع المؤسسات داخل الأمة الإسلامية، سواء الاجتماعية منها أو السياسية أو الاقتصادية، كما أنها قاعدة يقوم عليها تنظيم العلاقات والمعاملات بين أفراد المجتمع.
إن المرجع في نظر جميع القضايا والمخاصمات إلى أحكام الشريعة الإسلامية فهي الأصل والأساس المعتمد لجميع أحكام القضاء قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) وقال جل شأنه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
غاية القضاء والمقصودة منه إقامة العدل والقسط بين الناس في سائر الحكومات والخصومات قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).
وفي السنة أحاديث كثيرة تنص على وجوب قاعدة العدل الشامل ومنها ما هو في خصوص القضاء ومن ذلك ما رواه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة، واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار).
وفي رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة يقول: آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
قال ابن القيم: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصـول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تعقله والتفقه فيه.
وقوله رحمه الله: إذا عدل الحاكم في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان عنوان حيفه وظلمه.. وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان إحداهما: طمعه في أن تكون الحكومة له فيقوى قلبه وجنانه، والثانية أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر محجته.
فعلى القاضي أن يكون حياديًا فلا ينحاز لأحد دون أحد، وأن يعتبر طرفي الخصومة على قدم المساواة، وأن يتجرد عن كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما.
والإثبات في القضاء الشرعي هو المعيار في تمييز الحق من الباطل، والحاجز أمام الأقوال الكاذبة والدعوى الباطلة وعلى هذا فكل ادعاء يبقى في نظر القضاء الشرعي محتاجاً إلى دليل ولا يؤخذ به إلا بالحجة والبرهان، يقول جل وعلا: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
هذا وقد راعت أنظمة المرافعات الشرعية في المملكة العربية السعودية فيما هو بارز في الباب التاسع من نظام المرافعات الشرعية التي تتحدث عن الإجراءات الشرعية للإثبات ويبرز ذلك في ما جاء في المادة السابعة والتسعين ما نصه: يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها أثناء المرافعة متعلقة بالدعوى منتجة فيها جائزاً قبولها.
هذا وإن نظام القضاء في المملكة العربية السعودية وهو الذي يعتمد الشريعة الإسلامية مصدره وعمدته نجد أن نظام المرافعات الشرعية فيه يعتبر مبدأ المساواة، مبدأً أساساً في نظامه المشار إليه ولهـذا تطالعنا المادة الأولى من هذا النظام بما نصه: تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولى الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة، وتتقيد في إجراءات نظرها بما ورد في هذا النظام.
ومن المبادئ التي يرتكز عليها القضاء في الإسلام مبدأ سرعة الفصل في النـزاع، وعدم جواز التأخير بلا مسوغ شرعي، وهذا هو الذي كان عليه القضاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يقضي بين الخصوم في مجلس المخاصمة ولم يكن يرجئهم إلى وقت آخر كما قضى بين الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة.
كما كفل نظام القضاء في الإسلام تنفيذ الحكم بعد صدوره وهذا ما أصله عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه حيث جاء في كتابة المشهور: فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
قال ابن القيم رحمه الله شارحاً هذه الوصية ما نصه وقوله: فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، ولاية الحق نفوذه فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلاً له عن ولايته، فهو بمنزلة الوالي العادل الذي في توليته مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فإذا عزل عن ولايته لم ينفع ومراد عمر بذلك التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم ولا ينفع تكلمه به إن لم يكون له قوة تنفيذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه ومدح الله سبحانه أولي القوة في تنفيذ أمره والبصائر في دينه فقال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) فالأيدي: القوة على تنفيذ أمر الله، والأبصار: البصائر في دينه.
ولقد اهتمت التشريعات العقابية الحديثة بجهاز القضاء وقررت في قوانينها العقابية الحماية الجنائية لسير عدالة القضاء لتحقق آثارها المرجوة ضمانا لاستقلال القضاء ونزاهته ليؤدي وظيفته بعيداً عن كل ما يمس سير العدالة أو يحرفه عن الحق والعدل لذا نجد المشرع المصري اهتم بالقضاء وصاغ القواعد الجنائية العامة والخاصة التي تضمن حماية سير العدالة وتكفل تحقيق العدل والإنصاف، فبموجب مواد دستور 2014، فإن السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل في شئون العدالة أو القضايا، جريمة لا تسقط بالتقادم.. وتقوم كل جهة، أو هيئة قضائية على شئونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة، يناقشها مجلس النواب بكامل عناصرها، وتدرج بعد إقرارها في الموازنة العامة للدولة رقمًا واحدًا، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المنظمة لشئونها.
وينص الدستور على أن القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم في عملهم لغير القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات، ويحدد القانون شروط وإجراءات تعيينهم، وإعاراتهم، وتقاعدهم، وينظم مساءلتهم تأديبيًا، ولا يجوز ندبهم كليًا أو جزئيًا إلا للجهات وفى الأعمال التي يحددها القانون، وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء والقضاة وحيدتهم، ويحول دون تعارض المصالح، ويبين القانون الحقوق والواجبات والضمانات المقررة لهم.
وقد جاء في مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين مبادئ أساسية بشأن استقلال السلطة القضائية المعقود في ميلانو من 26 آب/أغسطس إلى 6 أيلول/ديسمبر 1985 كما اعتمدت ونشرت علي الملأ بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/32 المؤرخ في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1985، 40/146 المؤرخ في 13 كانون الأول/ديسمبر 1985 بأنه تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه، ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية، وتفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز، على أساس الوقائع ووفقا للقانون، ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات، مباشرة كانت أو غير مباشرة، من أي جهة أو لأي سبب، ولا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة، أو لا مبرر لها، في الإجراءات القضائية ولا تخضع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإعادة النظر، ولا يخل هذا المبدأ بإعادة النظر القضائية أو بقيام السلطات المختصة، وفقا للقانون، بتخفيف أو تعديل الأحكام التي تصدرها السلطة القضائية.
إن القضاء بين الناس في منازعاتهم عمل جليل القدر والاعتبار، وهو أمر لازم لقيام الأمم وحياتها حياة طيبة ونصرة المظلوم، وقمع الظالم وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها وباختصار فإن القضاء يراد منه تحصيل مصالح ومنافع، ودفع مفاسد ومضار للعموم تقوم الحاجة الملحة لاقتضاء ذلك.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.