بقلم : نانا جاورجيوس
تلك الثورة التاريخية المصرية التي يتغافلها أغلب المؤرخين وحاول البعض تشويهها للإيحاء برسم صورة متسامحة غير موجودة أساساً في تاريخنا المصري.تلك الثورة التي أهانت كرامة المصريين وطعنت لغتهم في مقتل. لهذا لا يعرف الكثيرين عن هذه الثورة شيئاً، لأن واضعو التاريخ هم المهيمنين بمنهجية معينة ولا يكتبه المنهزمين. ثورة قام بها المصريين نتيجة ظلم جباة الخراج والجزية والولاة الذين تعاقبوا على مصر و ضاعفوا تلك الأموال على المصريين بوجه عام وعلى الأقباط المسيحيين بوجه خاص، أيام حكم الخليفة المأمون، حتى أنها ثورة شملت الوجه البحري و القبلي، وتضامن فيها طوائف المصريين الذين إنضموا للبشموريين.فلم تكن ثورة دينية كما حاول البعض تأويلها بل كانت ثورة إجتماعية على الظلم الواقع على المصريين نتيجة فرض الخراج و الجزية مضعَّفة.
فتقول الروائية سلوى بكر في روايتها ” البشموري” لم تكن ثورة دينية كما يراها البعض بل ثورة إجتماعية، كان سببها تزايد ضريبة الخراج على الأرض الزراعية لأن العرب عندما فتحوا مصر لم يكن لهم دراية بالنظم الزراعية المعمول بها منذ عهد الفراعنة ربع للفرعون وربع للمعبد، وربع للفلاح وربع لإعادة الإنفاق علي العمل الزراعي، وعندما جاء العرب لم يطبقوا هذا النظام وكانوا يطالبون بزيادة غلة الأرض وزيادة الضريبة الزراعية ومن هنا أصبح هناك إجحاف بالفلاح الفقير، وثورات الأقباط بدأت منذ عصر الولاة وحتي العصر العباسي الأول وكانت هذه الثورات تخمد وتقمع حينا لكنها كانت تعود حينا آخر وتتجدد حتي جاء الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي وقمع هذه الثورة لأنه كان يري أنها تهدد نظام الحكم العربي في مصر…
” وتضيف” ثورة البشموريين لم تكن ثورة قبطية بحتة بل إنضم لهم فلاحين مسلمين وبدو العربان من سكان شمال الدلتا.. ورغم عدم نجاح الثورة البشمورية إلا أنهم أستطاعوا أن يسجلوا بطولات خالدة ضد الظلم والطغيان وقدموا درساً رائعاً في الصمود والتضحية..
وأوضحت أن معني البشموري تقصد به الفلاح المصرى الذى طالب بمطالب إجتماعية و إقتصادية عادلة وثار ضد الظلم بسبب زيادة الضريبة الزراعية “الخراج” الأمر الذى أدى لثورة شعبية مصرية عارمة على الخلافة العباسية.
ولمن لم يعرف من هم البشموريين كشريحة كانت ضمن المصريين، فهم أقباط إختلطوا عرقياً وتزاوجوا بالأروام اليونان. وكانوا يقطنون منطقه شمال الدلتا مناطق المستنقعات ويشتغلون فى إنتاج ورق البردى ويقول عنهم المؤرخ المقريزى فى خططه، ج1 ، ص78/89 أنهم: ( كانوا أكثر توحشاً وتعنتاً من سائر سكان مصر)
كان قد أستعان العباسيين العرب بالبشموريين في ثورتهم على الأمويين عام 750م، حين قادهم مينا بن بكيرة لإعلان الثورة على مروان بن محمد، وهزموا جيش الأمويين الذي حاصرهم.وعندما جاء العباسيون للحكم وعدوا الأقباط عموماً والبشموريين بوجه خاص بأنه سيتم معاملتهم بالعدل والحق ولم يتم إضطهادهم فيما بعد، وما إن تمكنوا من الحكم حتى إزداد حال الأقباط إضطهادا والمصريين بوجه عام شعروا بالظلم والجور في معاملة العباسيين لهم.
– وعن أسباب قيام الثورة بخلاف الضرائب وفرض الجزية، يقول المؤرخ القبطي ساويرس إبن المقفع:( (عامل العرب البشموريين علي الأخص في غاية القسوة، فقد ربطوهم بسلاسل إلي المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء ، فاضطر البشموريون أن يبيعوا أولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام هذا العذاب وكان يعذبهم رجل من قبل الوالي اسمه غيث.. ولما إقتنعوا نهائيا أن هذا الظلم لا يحده إلا الموت وأن بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها. فقد إتفقوا على إعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية).
– و يقول إبن إياس الحنفي : ( وما إن مر العام الثامن عشر بعد المائتين إلا وكانت أغلب البلاد قد آل أمرها إلى الخراب وقد عانى أهلها العذاب، لما أنزله عيسى بن منصور بهم من العذاب، وقل الزرع وجف الضرع و ولى الخير )
– في عام 831م، نشبت الثورة البشمورية الكبرى،في أشد موجتهاـ وكانت الولايات التابعة للدولة العباسية عموماً في حالة ثورة بتحريض من الأمويين. فثار الأقباط والمسلمين بجانب البشموريين .وأعلنوا التمرد والعصيان العام في أنحاء البلاد ورفضوا دفع الضرائب و الجزية للعباسيين، ولأن الخليفة المأمون يعرف قوة بأس البشموريين، أرسل أخوه المعتصم في البداية لإخماد الثورة ومعه أربعة آلاف جندي وحين هزم البشموريين جيش المأمون. ارسل جيشاً أخر بقيادة «أفشين التركي»، وهو أيضاً فشل وأنهزم أمام البشموريين الذين كانوا يزدادون قوة وعزيمة على إكمال ثورتهم حتى النفس الأخير، لأنهم لم يثقوا في العرب العباسيين وأنهم لا يوفون بأمانة وعودهم و أنهم كسروا كل عهود لهم، ما دفع المأمون لأن يزحف بنفسه على رأس قوة عسكرية أكبر ليخمد ثورة المصريين. في الوقت الذي كان بقايا الأمويين يجهزون لثورتهم ضد الحكم العباسي، وخشي المأمون أن ينضم إليهم البشموريين الذي يعلم جيداً قوة بأسهم.
وكاد ثوار مصر بمسيحييها ومسلميها أن يفتكوا بجيش المأمون لولا أن المأمون لجأ لطرقه الملتوية وبمنطق” فرّق تسُدْ ” للقضاء على ثورة المصريين ،فإستدعى الأنبا ديونيسيوس البطريرك الإنطاكي ومعه الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط وقام بالضغط عليهم حد تهديدهم أن يساعدونه لإخماد ثورة البشمور،ويصدروا مرسوماً رسمياً للشعب أن يستسلموا ويخضعوا للولاة وللدولة، فبدأ تأييد الشعب المسيحيين والمسلمين لمساندة البشموريين تضعف، رغم عناد البشموريين وتصديهم وحدهم لجيش المأمون، ولكن إستطاع المأمون أن يهزم البشموريين في النهاية، بعد تخلي باقي المصريين عنهم. كان نتيجته هدم مساكن البشموريين بالكامل و كنائسهم و حرق بعض أحياء وقتل عدد كبير منهم في المعارك.وبعد هذه الثورة تحديداً بدأت تحل اللغة العربية محل اللغة القبطية واليونانية في أنحاء البلاد واللتان بدرهما بدأتا تضمحلا في التعاملات اليومية للمصريين.
– أما المقريزي فيقول:
” انتفض القبط فأوقع بهم “الأفشين” على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال وبيع النساء والذرية، فبيعوا وسُبى أكثرهم، حينئذ ذلت القبط في جميع أرض مصر. – حيث يقول ساويرس إبن المقفع واصفاً نهاية ثورة: “.. وأخيراً رضخ الأبطال للأمر وسافروا على سفن إلى أنطاكية حيث أرسلوا إلى بغداد وكان يبلغ عددهم ثلاثة آلاف، مات معظمهم في الطريق أما الذين أسروا في أثناء القتال فقد سيقوا كعبيد ووزعوا على العرب، وبلغ عدد هؤلاء خمسمائة، فأرسلوا إلى دمشق وبيعوا هناك.. “
ليأمر المأمون بالبحث عما تبقى من البشمور وأرسالهم لسجون عاصمته البغدادية ولما تولى المعتصم عام 833م أطلق سراحهم، فعاد بعضهم وبقى الأخرين في بغداد ربما لشعور المعتصم بالذنب مما فعله الولاة العباسيين في البشمور.
– تأثر الممثل والمخرج السنيمائي العالمي ميل غيبسون بثورة البشمور عام 2011 و وصفها بالمأساوية وتعاطفه لما عاناه المصريين على يد العباسيين، وأنه بدأ بتجهيز فيلمه الدرامي بعنوان ” مأساة شعب” عن تاريخ المصريين البشموريين كما كتبت جريدة اليوم السابع في أغسطس 2012تحت عنوان: (ميل جبسون وبشير الديك يقدمان الثورة البشمورية فى فيلم ومسلسل ). وصرح الكاتب الكبير بشير الديك بأنه بصدد كتابة مسلسل عن الثورة البشمورية مأخوذاً عن رواية الروائية سلوى بكر، عن متاعب الفلاح المصري والظلم الذي قاساه.
ولكن إلى الآن لم يخرج أي عمل سينمائي للنور لا محلياً ولا عالمياً، ولا نستطيع أن نلوم الغرب أنه تجاهل تاريخنا المصري، إن تغافلنا نحن عنه بل وحاولنا محوه من ذاكره شعب بأكمله. .
_____________
المــــــــــراجع:
• ساويرس ابن المقفع: سيرة الآباء البطاركة، سبولد، بيروت 1904
• رواية البشموري، للروائية المصرية سلوى بكر
• جاك تاجر : أقباط ومسلمون، كراسات التاريخ المصري.
• المقريزى : السلوك لمعرفة دول الملوك، دار الكتب.
• ابن إياس : بدائع الزهور في وقائع الدهور, تحقيق محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1982