الثلاثاء , نوفمبر 19 2024
ريهام زاهر

البلياتشو ( الجزء الأول )

بعد ان أتم دوره ككل يوم ، اتجه البلياتشو الي بيته ليأكل ثم يأخد قسطا من الراحة ..
دخل بيته و أزال الألوان و الأقنعة من علي وجهه… ثم اتجه لسريره لينام… و لكن في تلك الليلة لم يستطع النوم لأن باله كان مشغولاً ، فقد سمع احد المديرين في السيرك يتحدث عن فكرة الاستغناء عن بعض العاملين الكبار في السن لإدخال أفكار و تقنيات حديثة علي يد شباب صغير السن ….
حاول ان يتذكر كم سنة قضاها في هذا السيرك ، فلم يستطع .. فهو يعمل فيه منذ صغره ، عاش بلا أب و لا أم ، بالكاد يتذكر عمه الذي توفي و هو صغير بعد ان اودعه في السيرك..
سنوات عديدة مرت عليه و هو كالآلة … حياته كله تدور حول وضع بعض الألوان و الأقنعة و عمل بعض الحركات الطريفة والبهلوانية لإضحاك الآخرين…
لا يتذكر انه ذهب لمكان آخر سوي بيته الصغير و السيرك . لا يتذكر انه خرج في نزهة مع اصدقاء او مع احد الفتيات . كان كثور مغمض العين يعمل في ساقية .
احس في تلك الليلة انه أفني عمره في لاشئ و بدون اي ثمار ..فلا أسرة و لا اصدقاء ..ربما بعض الاموال القليلة التي بالكاد قد تكفيه لبعض الوقت… أرهقه التفكير فنام .
و في الصباح لم يذهب لعمله كالمعتاد ، بل قرر ان يخصص وقت لنفسه ، فذهب و اشتري إفطاراً شهياً و ذهب ليجلس علي شاطئ النهر . لأول مرة يشعر بجمال الطبيعة … لأول مرة يسرح مع صوت مياة النهر … هدأت نفسه و بدأ يحس بالارتياح …
ثم تمشي في المدينة بلا هدف ، ماراً ببعض المتاجر و المحال ، و فجأة وقف امام احد المحال مذهولاً مصدوماً، كانت مجرد مرآة معروضة للبيع و لكن صدمته كانت في صورته هو داخل المرآة ، لقد كبرت ملامحه دون أن يدري ، كان قد بدأ في نسيان شكله من كثرة ما يضع من ألوان و مساحيق أخفت وجهه الحقيقي ، رأي وجه رجل حزين و عيون ذابلة ، هالته تلك التجاعيد تحت عينيه و حول فمه و رقبته ، كيف لم يرها من قبل ؟!! كيف تغير هكذا سريعا ً ؟!! و كيف لا يمتلك مرآة في بيته ؟!
دخل المتجر و اشتري المرآة و عاد لبيته و علقها علي أحد الحوائط…
و قبل ان ينام ، كان قد اتخذ قراره الأول بأن يترك العمل قبل أن يستغنوا هم عنه ، لم يكن يحمل هم المال لأنه كان قد ادخر مبلغاً يكفيه لبعض الوقت لحين يتدبر عمل أو مشروع خاص به …
و كان قراره الثاني و هو الأهم بأن يكتشف ما هدف هذه الحياة ؟ و ما سر السعادة ؟ و كيف يستطيع ان يستفيد بما قد يتبقي له من عمر بدون ان يضيع كما ضاعت منه سنوات طويلة ؟
ارهقه التفكير ايضاً فنام.
البلياتشو
( الجزء الثاني )
عندما استيقظ البلياتشو في صباح اليوم التالي ، بدأ يُخرج من دولابه ألعاب و عرائس و اعمال فنية كان قد صنعها بنفسه في اوقات فراغه .. فكانت بداية فكرة لمشروع.. بأن يصنع ألعاب و عرائس جديدة و يبيعها …
فبدأ بكل حماس و جمع أعماله و صنع عرائس جديدة …ثم ذهب لمتجر جاره و اقترح عليه ان يعرض الألعاب و العرائس في متجره مقابل جزء من الربح… وافق جاره بسهولة إذ رأي ان البلياتشو فعلًا موهوب و الاعمال كلها جميلة و متقنة بالفعل …
و هكذا انتقل البلياتشو الي مرحلة جديدة في حياته ، تحول من مجرد بهلوان في سيرك الي فنان و صاحب حرفة خاصة به…و نجحت تجارته و ربحت…
و في يومٍ ، جاء إليه جاره متحمساً و طلب منه ان يصنع عدداً كبيرا من الالعاب و العرائس لأن تاجر ثري اعجبه ما يصنع و طلب منه كمية كبيرة مقابل مبلغ مادي وفير ، ذاكراً ان كل الكمية سوف تُرسل كتبرع لدار أيتام…
و عندما علم البلياتشو ان التاجر سيتبرع بها لاطفال أيتام ، أصر ان يعطيها للتاجر مجاناً ، رافضاً نصيحة جاره الذي اتهمه بالغباء و الجنون .
في تلك الليلة ، بدأ في عمل الألعاب و العرائس بكل حماس ، لم يشعر بالوقت حتي انتهي من كل الكمية المطلوبة .
و مع بزوغ فجر اليوم الجديد ، خرج البلياتشو مسرعاً ليقابل التاجر الثري ليعطيه الكمية … و طلب منه ان يذهب معه للملجأ لعله يستطيع ان يُدخل البسمة علي وجوه الاطفال بحكم وظيفته القديمة …
الملجأ :
في دار الايتام ، دخل البلياتشو ظاناً بأنه سيخدم الاطفال و سيرسم البسمة علي وجوههم و يضحكهم ، ففوجئ بأنه هو المحتاج للخدمة و للبسمة و الضحكة….
وجد نفوساً بريئة جداً ،قد تكون فقدت الاسرة و قست عليها الحياة و لكنها لم تفقد البراءة الداخلية .. نفوس داخلها إيمان فطري و رجاء و أمل، قلوب بيضاء و ابتسامات صافية و ضحكات لا تعرف نفاق او كذب او تمثيل…
تعلق قلبه بالاطفال ، و شعر بأنه فارغ و ضعيف ..احس بأنه هو المحتاج لان يعيش في هذا المكان وسط هؤلاء الملائكة…
تغيرت حياة البلياتشو كاملة ، كان يومياً يزور اصدقاءه الاطفال في دار الايتام ، يجلس معهم بالساعات يحكي لهم القصص و يلعب معهم و يريهم حركاته البهلوانية و المضحكة ، و لكن مشاعره اثناء العروض البهلوانية لأطفال الدار كانت مختلفة تماما عن مشاعره ايام السيرك…
أصبح جدوله اليومي يبدأ في المساء حيث يسهر ليصنع الكثير من الألعاب ، و في الصباح يعطيها لجاره في المتجر ليبيعها ، ثم يجلس علي شاطئ النهر يختلي بنفسه في هدوء ، و بعدها يذهب ليشتري اطعمة و ملابس و حلوي و كتب و يذهب للملجأ ، حيث وجد هو ملجأه و راحته وسط هؤلاء الاطفال اليتامي …
أحبوه و أحبهم بصدق ، احس وسطهم بدفء عجيب.. وفوجئ بإختلاف في حياته و في قلبه و في فكره ، وجد نفسه يتعاطف مع مشاكل و هموم كل من حوله ، و بدأ يجد سعادته في إسعاد الآخرين … تعلّم هو من الأطفال التلقائية و الشفافية و البساطة … و كأن روح الطفولة هي روح معدية!! و بدأت ابتسامة جميلة حقيقية تظهر علي وجهه بعد سنوات من الجفاف و التمثيل و الإدعاء…
قضي سنوات جديدة في حياته يخدم هؤلاء الاطفال و غيرهم كثيرين …
المرآة :
و في يومٍ من ذات الايام، كان البلياتشو العجوز جالساً في بيته الصغير … كان يشعر بالإعياء و التعب من كثرة المجهود الذي يبذله ، لكنه كان سعيد غير متألم !! تنهد و تنفس بعمق ثم وقف مستنداً علي الحائط و اغمض عينه ليصلي … صلاة عميقة من القلب ….صلاة و اشتياقات حقيقية …. صلاة شكر لمن وضع داخله حياة جديدة و روح جديدة قبل ان يفوت الاوان ، شكر من أجل فرح حقيقي و حب متدفق يحس به و يغمره…
قضي وقتاً طويلاً يصلي ، و عندما فتح عينيه ، رأي المرآة – التي كان قد اشتراها – معلقة علي الحائط ،و عندما نظر فيها كانت صدمته هذه المرة مختلفة ؛ إذ أنه رأي عيوناً تلمع و وجهاً جديداً يشع شباباً و سلاماً و حياةً … حياة جديدة…. حياة أبدية !!
ريهام زاهر
فبراير 2016

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!

كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.