الكاتب / مايكل عزيز البشموري
” تعتبر المسيحية ديانة ضعف ، فقوتها الحقيقية تكمن فى ضعفها ، فإذا كان رجال هذا الدين أقوياء ، فإن المسيحية تصبح ضعيفة ، وإذا كان رجال الدين ضعفاء ، فإن المسيحية تصبح تدريجيا قوية ، لانه مكتوب : تكفيك نعمتى لان قوتى فى الضعف تكمُل “ (2كو 12 : 9 ) .
تلك العبارة عالية أخر ما توصلت إليه ، بعد قراءتى للتاريخ المسيحى بوجهاً عام ، فالتاريخ يسجل لنا أقوى اللحظات الذى مرت بالكنيسة الرسولية ، وهى تلك اللحظات التى كانت مليئة بالألم والاضطهاد ، وأضعف اللحظات التى مرت بالكنيسة ، هو الذى كان يتمتع فيها رجال الدين بالنفوذ والسلطة
فعلى سبيل المثال : يذكر لنا التاريخ عما مرت به الكنيسة الكاثوليكية من ضعف وإضمحلال نتيجة تسلط رجال الدين عليها ، وتأسيسهم لكيان أوروبي سياسي ينطوي تحت لواء بابا روما ، الذي لعب بالماضى دور ” ولي الفقية ” ، والحاكم بأمر الرب زمن العصور الوسطى ، الامر الذى أدى لإزدياد معدالات الفساد والانحراف المالى والاخلاقى بين صفوف رجال الاكليروس بتلك الكنيسة
وقد انبثق عن الكاثوليكية كيان منفصل تمرد على الوضع القائم آنذاك ، فقام الراهب الالماني مارتن لوثر ، إجراء إصلاحاته الشهيرة بالقرن الخامس عشر الميلادى ، لتظهر بعد ذلك الحركة البروتستانتية
ولتنشئ كنيسة مسيحية متحررة فى المسيح يسوع ، وبعيدة عن العمل والتقليد الرسولي المتعارف عليه .
أيهما أفضل : دولة الكنيسة أم كنيسة المسيح ؟
“وفي تلك الأيام إذ تكاثر التلاميذ ، حدث تذمر من اليونانيين على العبرانيين، أن أراملهم كنّ يغفل عنهن في الخدمة اليومية ، فدعا الاثنا عشر جمهور التلاميذ وقالوا لا يرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد. فانتخبوا أيها الإخوة سبعة رجال منكم مشهودا لهم ومملوين من الروح القدس وحكمة فنقيمهم على هذه الحاجة. وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة “. أع 6 : 1-4
تُجسد تلك الآيات من سفر أعمال الرسل ، الاشكالية التى تمر بها الكنائس المسيحية اليوم بمصر
فرجال الدين ( تلاميذ المسيح ) ، باتوا منشغلين عن أداء الخدمة والصلاة بالشكل المتعارف عليه
فأصبح البعض منهم يلهث وراء موائد الحكام والاغنياء لخدمتهم ، طمعاً فى نيل رضاهم
من أجل تحقيق مكاسب وقتية علي حساب كنيسة المسيح ، فتشبه اولئك الاباء بأهل العالم
وأصبحوا متمسكين بالسلطات الممنوحة لهم من قبل الحاكم ، متناسين بذلك عمل الرب وتدابيره العظيمة .
نرجع لعبارتنا الاولى : ” تعتبر المسيحية ديانة ضعف ، فقوتها الحقيقية تكمن فى ضعفها ، فإذا كان رجال هذا الدين أقوياء ، فإن المسيحية تصبح ضعيفة ، وإذا كان رجال الدين ضعفاء
فإن المسيحية تصبح تدريجيا قوية ، لانه مكتوب : تكفيك نعمتى لان قوتى فى الضعف تكمُل “ (2كو 12 : 9 ) . لقد وصلت كنائسنا اليوم لمرحلة الوهن ، فقد حول رجال الدين كنيستهم إلى دويلة مستقلة عن الدولة المصرية ، لتصبح كيانا منفصل عن المشهد السياسي المصري
وتتمتع تلك الدويلة الصغيرة بالاستقلالية ، فتمتلك السلطات التنفيذية والتشريعية ، أضف إلى ذلك إقتصاد يتمتع بعدم مراقبة من الدولة والشعب القبطى ، ويرجع الفضل لذلك للانظمة العسكرية الشمولية ، التى حكمت مصر طيلة الستون عام الماضية ، والذى منحت خلالها الكنيسة القبطية صلاحيات موسعة ، بدرجة جعلت رجال الدين المسيحي أوصياء على شعبهم في كافة مناحي الدنيا .
” هناك جهات وجماعات عديدة تسترزق من وراء المنظومة الفاسدة ، الذى قام رجال الدين المسيحى بتأسيسها منذ قيام إنقلاب العسكر عام 1952 ، فبفضل هذا الانقلاب الثوري تراجع وضع الاقباط سياسياً واقتصادياً
وتقوقعوا مرة أخرى داخل بوتقة الكنيسة ، وذلك بعد انتهاء فترة حكم الاسرة العلوية ، الامر الذى أعطى الفرصة لرجال الدين المسيحى السيطرة على شعبهم – نظراً – لان رجال الدين هؤلاء ، لم يستطيعوا بسط نفوذهم على الشعب القبطى إبان الحقبة الليبرالية ، بعد تولى أسرة محمد على باشا حكم مصر
والسبب فى ذلك يرجع لتبنى الدولة المصرية الحديثة لمفهوم العلمانية وفصل الدين عن الدولة ، وبناءاً عليه تم تأسيس المجالس الملية القبطية عام ١٨٧٦م ، وهيئة الاوقاف القبطية ، ليمثل من خلالهما المجمتع القبطى المدنى أمام الدولة المصرية – بعيدا عن أي وصاية كنسية – مثلما كان متبع إبان عصور الظلم والاضطهاد ، وهو الامر الذى جعل الكنيسة تخسر نفوذها وسيطرتها على رعاياها تدريجياً ” .
وبعد ثورة ٥٢ العسكرية ، إستطاعت الكنيسة القبطية ، بسط نفوذها مجدداً على المجتمع القبطى ، عبر سماح النظام الجديد لها ، بالاستحواذ على المؤسسات المدنية القبطية
الذى كانت محل صراع كبير بين قيادات الكنيسة والعلمانيين الاقباط ، فكلى الطرفين يرى فى نفسه ، بأن له كامل الاحقية بتمثيل الطائفة القبطية أمام الدولة المصرية – هنا – نرى إنحياز ثورة يوليو وضباطها
لصالح رجال الكنيسة القبطية ، فتم سحب البساط من تحت أرجل العلمانيين الاقباط ، وتم إلغاء العمل بالمجالس الملية ، وهيئة الاوقاف القبطية ، أضف إلى ذلك إلغاء الاحزاب السياسية المصرية ، فلم يتبقى للاقباط سوى الالتجاء إلى حصن الكنيسة ورجالها ، نتيجة وفاة الحياة السياسية بمصر
وهو الامر الذى إنعكس على تصرفات قادة الكنيسة القبطية ، فقد أعُطي لهم سلطات وصلاحيات موسعة ، لم توجد إلا فى الدول الديكتاتورية والدينية ، فلإول مرة بعد إنتهاء العصور الوسطي
نرى رجال دين مسيحيين ، يجمعون بين أيديهم السلطات التنفيذية و التشريعية فى آن واحد ، فُسمح لهم بإصدار التشريعات وسن القوانين الخاصة دون مساءلتهم من أحد عما يفعلونه .
* ماذا نريد من الكنيسة ؟
يقول الاب متى المسكين : ” إن أخطر عدو يهدد كيان المسيحية بالانحلال هو أن يهتم الكارزون فى الكنيسة بموضوع آخر غير ( خطية الانسان ) فيتركوا عنهم دعوة المسيح للخطاة التى كانت مهمتهم الاولى
والعظمى ، وينشغلوا بالانسان من جهة حياته الاجتماعية
ويصف المسكين هذا الامر بقوله : ” هذا ليس خروجاً عن المسيحية فحسب ولكنه مقاومة لها
ويتبين لنا هذا من دعوة بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس بالبشارة بالتوبة والخلاص ، لان هذا يعتبر صلب العقيدة المسيحية ، لقد استطاع بولس الرسول ببصيرته الروحية النافذة أن يكتشف الفرقة الموجهة لتدمير المسيحية
فلقد قام معلمو الناموس ينادون فى مدينة أفسس بأن الديانة ليست للخطاة ، وكان هذا بمثابة إنهاء للمسيحية ، لذلك اعتبر بولس الرسول هذا الامر بمثابة إعلان حرب على الديانة المسيحية الوليدة !
فإما يكسب المسيحية للخطاة ، وإما تموت الكنيسة كما ماتت الديانة اليهودية على أيدى الفريسيين أنفسهم ” . من كتاب : “الكنيسة والدولة ” للاب متى المسكين .
وبالتالى يتضح لنا أن عمل الكنيسة الحقيقى هو دعوة الانسان إلى التوبة وخلاص الخطاة ، وهذا ما أتبعه آباءنا الرسل الكرام ببصيرة من الروح القدس ، فقالوا لليونانيين واليهود عندما تذمر أراملهم بطلبهم مساعدات إجتماعية ، قالوا : لا يرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد . فانتخبوا أيها الإخوة سبعة رجال منكم مشهودا لهم ومملوين من الروح القدس وحكمة فنقيمهم على هذه الحاجة. وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة .
* إذن ينحصر دور رجال الكنيسة في ثلاث إختصاصات فقط :
1- الانسان الخاطئ 2- ملكوت الله 3-المناداة بالتوبة .
وأخطر ما كتبه الاب متى المسكين بكتابه الكنيسة والدولة :
” إنه كلما خرجت الكنيسة عن اختصاصات مسيحها ، وبدأت تنزع إلى السلطان الزمنى ، وتجيش الجيوش بإسم الصليب ، وزاغت وراء أموال الاغنياء
وإرتمت في أحضان أصحاب النفوذ والسلطة ، وحاولت محاولات جدية وعنيفة للجمع بين السلطان الدينى والسلطان الزمنى ، ودأبت على المطالبة بحقوق عنصرية وطائفية
كلما فشلت المسيحية فى تأدية رسالتها ، ودب فيها الخصام والنزاع والوهن
وفقدت شكل مسيحها كمنادية بالتوبة ، وهكذا ضاع منها الخروف الضال
ولما انشغلت بأمجاد الدنيا ، قُفل فى وجهها باب الملكوت السماوى
وصارت فى حاجة لمن ينتشلها من ورطتها ويردها إلى حدود اختصاصاتها الاولى “.
– ” لقد إنحرف رجال الكنيسة القبطية عن إختصاصاتهم ، وضاعت بوصلة الكنيسة والاقباط ، فما نراه الان من تحالف الكنيسة المخزي مع رجال السلطة ورأس المال ، ودأب رجال الدين المسيحى على تملق الاثنين يفقد المسيحية كرامتها ، ويسترجع أذهاننا لما مرت به الكنيسة الكاثوليكية من إنحرافات وأخطاء بزمن العصور الوسطى ، ولا بد لنا كأبناء غيورين علي كنيستنا ووطننا بأن نردع رجال الدين هؤلاء ، لنرد كرامة المسيحية التى تم أهدرها بسببهم ” .
– ” إن المشهد المتدنى الذي شاهدناه جميعا فى ليلة عيد الميلاد بالكاتدرائية المرقصية بالعباسية ، إبان زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي ، يثبت لنا جميعا أن رجال الكنيسة خانوا دم المسيح ، وتم وصم كنيستنا العريقة بالخيانة الكبرى
فمن أجل عيون الحاكم تحول بيت الله إلى ساحة سياسية يشاع منها الهرج والمرج ، فأدار هؤلاء الاباء ظهورهم نحو مذبح الرب ووقفوا مع الحاكم لينافقوه ويتملقوه ، ناسين عمل الرب وخلاصه لهم “.
على رجال الكنيسة الانصياع وراء المطالب التى تطالب بها الحركات القبطية الاصلاحية ، وعلينا جميعاً كتابة خارطة طريق للمستقبل ، تستطيع من خلالها إنتشال الكنيسة من الوحل الذى أغرقت نفسها فيه ، وخارطة المستقبل تلك ، ستحدد إختصاصات رجال الدين والعلمانيين الاقباط سوياً
وتنحصر فى ثلاث نقاط :
1- هيكلة المجلس الملى العام بفروعه ، وإجراء إنتخابات جديدة له ، مع وضع ألية لمراقبة الموزانة المالية الخاصة بالكنائس والاديرة ، والمشروعات القبطية تحت قيادة المجلس الملى .
2- تشكيل لجنة من العلمانيين الاقباط ورجال الدين المسيحى لكتابة القوانين واللوائح ، التى تلزم المجتمع القبطى مثل : قانون الاحوال الشخصية ، قانون دور العبادة الموحد وغيره .
3- تشكيل لجنة علمانية تضم : شمامسة وأراخنة كبار بالكنيسة ، لتولى مسئولية خدمة ” أخوة الرب ” ، وإبتعاد رجال الكنيسة عن أداء تلك الخدمة عملاً بالاية المقدسة : ” لا يرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد ، وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة ” أع 6 : 1-4 .
أخيراً :
إننا سوف نُسأل يوماً من أولادنا وذوينا عن الدور الايجابى الذى قمنا به فى تحرير وطننا وكنيستنا ، فماذا نجاوب عن أنفسنا ؟ ( الاب متى المسكين ) .