بقلم المحامي نوري إيشوع
إستيقظتُ صباح اليوم كالعادة للذهابِ العمل، درجات الحرارة كانت 18 درجة تحت الصفر، مع عامل الرياح زادت
عن ال 25 درجة تحت الصفر، عزمتُ حقيبتي بما فيها من أوراقٍ مبعثرة بعد أن عبث بها الزمن، جمعتُ قوايّ
كأنني ذاهبٌ إلى معركة الحياة، بعد أن تأكدتُ بإن برودة الخارج ليست أقلَ وقعاً من سوطِ جلاد.
وصلتُ إلى مكتبي بعد رحلةٍ شاقة ناهزت ال 30 دقيقة ، بسبب صعوبة الطرقات ونتيجة تراكم الثلوج ناهيكم عن الصقيع القاسي الذي شلّ الحياة في المدينة.
خلعتُ معطفي وأنا أنظر إلى النافذة الكبيرة التي تطلُ على الأفق البعيد، فغرورقت عيناي بالدموع غصباً عني
وأمتلكتني حالة كآبة، غريبة لا توصف، لإنني في تلك اللحظة بالذات وبصورة عفوية، رإيتُ في الأفق البعيد غيمة
سوداء غطت وطني ووشحت مدينتي بالسواد، تذكرتُ أطفال بلادي من خلال تلك النافذة وهم يرتجفون من شدةِ
البرد تحت خيام العربان، بعد أن لسع شتاء العرب أجسدهم الغضة، رإيتُ فتاةً في مقتبل العمر ملطخة بالدماء حتى
أضحى ثوبها الممزق أحمراً كألوان أرض بلادي بعد وقعتْ أسيرةً بين برائن إبليس، رإيتُ رجلاً طاعناً في السن
وهو يترنح في مشيته بعد أن أصابته السنين في مقتل وأكمل عليه أمراء العرب فأهنوا هيبته ووقاره، رإيتُ جثامين
الشهداء الأطهار مع ذويهم ليلقوا عليهم تحية اللاعودة وهم يوارنهم الثرى. شاهدتُ من تلك النافذة الكبيرة أهلي
وهم يرنمون بخشوعٍ ترانيمهم الميلاد الحزينة في ليلة الميلاد وأرواح المسافرين إلى السماء تحلق عاليا فوق
الجموع الغفيرة، المجتمعة، تأبى ان تغادرها قبل أن تلقي على أحبتها وأهلها تحية الوداع الأخيرة وهي تردد أنشودة
الخلود وصوتاً ربانياَ يناديهم (( نعما ايها العبد الصالح والامين. كنتَ امينا في القليل فاقيمك على الكثير. ادخل الى
فرح سيدك. مت: 25-21))
إيقظني من رحلتي الحزينة، رنين هاتفي وإذ بصوتِ حبيبتي الملائكي وهي تضحك ضحكتها الصباحية الأكثر من
رائعة لتلقي عليّ تحية الصباح، لتقولَ لي بإن الأمل موجود دائماً وغداً سيكون أجمل والشمس لا بد أن تشرق
إشراقة أبدية لم ولن تأفل أبدا، لإن هؤلاء الشهداء الأبرار وهولاء الأطفال الجياع والخائفين وتلك الصبية الجريحة
في الصميم، وذلك الشيخ الطاعن بالسن، بهم ومن خلالهم سوف سينبلج فجر الإنسانية الحقيقية من جديد وبدمائهم
الزكية وتحملهم الأسطوري سوف يندحر القاتل ويتلاشى في مقابر التاريخ إلى الأبد.
رحم الله شهدائنا الأبرار ورحم كل شهدائنا على مختلفِ عقائدهم ومذاهبهم وألوانهم.
وألقى رحمةً وأمناً وسلاماً في قلوبنا جميعاً وفي قلوبِ ذويهم وأحبتهم.