تعلمت أن إيماني بالأشياء عن قناعة لا يُلقن عبر الأخرين بل يُختبر لينمو فيمنح قامة ضافية لتصير حرية الإنسان مقدسة لا يقربها أحداً لأنها صميم حرياته الشخصية التي كونت كينونته عبر سنوات متراكمة تمنحه قناعاته ونضجه في الحياة. تعلمت منذ الصغر أن إيماني بالأشياء يجعلني أعيش الحياة بكل ما تحمله من مرارة ومآسي وقهر وبعضٍ من الأفراح القصيرة.
عشقت صباحيات فيروز وعذوبة أغانيها وشجن تراتيلها وجذبتني نغمات أسمهان الملائكية حين تغرّد ” ليالي الأنس في فيينا “، و دفء صوت فريد الأطرش المملوء حنيناً وقصائده الحزينة: ” أضنيتني بالهجر” وصدق مشاعر عبد الحليم حافظ في أفلامه الأبيض والأسود، و رومانسية عند أم كلثوم وحفلاتها التي كنت أنتظرها وأبي كل يوم خميس من مطلع كل شهر، لم أكن وقتها أفهم أغانيها و كلماتها الثقيلة و التي كانت قبل أن تكمل وصلتها الأولى حتى أكون قد سافرت في حِجر أبي لأغط في نومي لأستيقظ صباحي على حواديت أبلة فضيلة و وحكايات سِت الحُسن والشاطر حسن وسندريلا والأقزام ومجلات ميكي ماوس و سمير، الذين لوّنوا بداياتي الأولى وشكلوا طفولتي بعالم من الألوان التي مازلت أحاول أن أحتفظ بها وسط جفاف حياة فقيرة و ليست سهلة .
منحني الكتاب المقدس لغته الروحية و خصوصاً الإنجيل بنسخه الأربعة و أسفار سليمان الملك الشعرية كالأمثال ونشيد الأنشاد والحكمة والمزامير وأن أستخرج من روح حرفه لغة أخرى أكثر عمقاً و روحانية فالكلمة ورائها قاموس من معاني الكلمات والحرف ورائه حروف لا تنتهي. فليس صحيحاً ما قاله الأديب الأمريكي تشالز بوكوفسكي: ( احذر من أولئك الذين يستقون تعاليمهم من إلههم فقط، وذلك لأنهم فشلوا تماماً أن يعيشوا حياتهم الخاصة). كيف هذا وسليمان النبي علمنا في أمثاله: ( وجّه قلبك إلى الأدب، وأذنيكَ إلى كلمات المعرفة) – أمثال 23 ، والسيد المسيح له المجد قال: فتشوا الكتب .. فجدته لغة الحياة الحيّة الحقيقية والمملوء عذوبة وتجارب بشرية بكل عظمتها وتجاربها و ضعفاتها وسقطاتها. لولا حِس الحرف وسِحر دهشته ما أستطعت أن أكتب في كراسات المدرسة فملأت سطورها بأحباري البنفسجية في إجازاتي الصيفية وأشعاري ما بين ما هو وطني حماسي وتأملي وأدبي رومانسي وكل ما تقع عليه عينيّ من أشياء حياتية، دونتها قبل أن يدخل عالمنا ما يسمى بعالم الإنترنيت الذي هو بكل تأكيد أصقل وأثرى قراءاتي اليومية. فقبله لم تكن الهوايات و التسلية متوفرة إلا من خلال القراءة والإطلاع والأغاني و فريق الموسيقى المدرسي لتنمية وإشباع شغف الهوايات.
وعندما كبرت قليلاً عشقت درويش الذي وجدته يمجد المرأة في أمه و حبيبته ريتا بحب مثالي عندما خلدها ( بين ريتا وعيوني ، بندقية) ،والذي كثيراً ما إرتبط الحب عنده بحب الأرض و الوطن والنضال الفلسطيني والحبيبة المفقودة. أحببت أشعار نزار قباني الغزلية في المرأة و وصفه الحسي لأنوثتها بنمط وصفٍ أكثر رِقة وشاعرية من الشعر الجاهلي الذي كنا نتعلمه بالمدرسة. أدهشتني كتابات وأشعار جبران الصوفية و رسائل الشُعلة الزرقاء للأديبة رقيقة الحِس ميّ زيادة التي كم عانت المنفى بين الأوطان. وغادة السمان حين غردت لعصفورها الذي فضلته أن يبقى على شجرتها : ( جلدوني بسياط الغضب الإجتماعي..والعصفور على الشجرة نجمة فراشة، حلم بلاد بداية.. وحتى حين تأتي إليّ برقتك الشرسة العذبة بوداعة طفل فأني لا أطبق يدي عليك وإنما أعاود إطلاقك للريح وأعاود رحلة عشقي لجناحيك ).
من كتاباتهم الإنسانية وأشعارهم المجازية فهمت أن القبح والإذلال والحرمان لم يخلقوا للأنثى التي هي أم الإنسانية والمجتمعات وهطول مطر الحياة على تُربة جافة فتزهر حقول السوسن ويفتح عباد الشمس عينيه كل صباح حين يتطلع لوجهها فيبتسم ويتعبد في محرابه. علمتني كتاباتهم أن لكل إمرأة جمالها الخاص وليست ناقصة لا جسدياً ولا عقلياً فهي التي ربت أجيال، وإلا تكون ربّت رجال يشبهونها و يتمتعون بنفس النقص. ومشاعرها التي لو حافظ عليها الرجل لما أصبحت مجتمعاتنا ذكورية وصل الحد بها أن أصبحت المرأة مكروهة إنسانياً ومنبوذة مجتمعياً. تعلمت منهم نظرة الحب الحقيقية من رجل لإمرأته وكيف يمنحها مكانتها التي كنت أبحث عنها بمجتمع لم أجد لها فيه كرامة ولا ثمن. في بيوتات الجيران وفي الأسواق والشوارع و وسائل المواصلات منبوذة ومحتقرة.يا الله كيف يكتبون عنها بهذا الإجلال والإحترام كملكة حد العبادة، وكيف أرى الرجل في مجتمعي الجاف يبهدل إمرأته ويذلها حد أن يطردها منكوشة الشعر في منتصف الليالي لتبات ليلتها عند الجيران ربما جائعة لعلهم يحنوا عليها ببعض الطعام والذي حُرمت من تناوله وسط أولادها الذين تركتهم خلفها يبكونها وينامون ليلتهم لا يعرفون مصير أمهم.
كانت الكراسة والكتاب وأغنية هم وسائل المتعة المتوفرة بمجتمع أغلبه لا يقرأ. فثقافة نوع من الكماليات المدفونة تحت أتربة رفوف المكتبات المتاحة التي لم تكن تبيع إلا كتب التعليم ذات الأوراق الصفراء والتي علينا حفظها وإجترارها عند اللزوم. اتذكر أول كتاب إقتنيته من معرض كان للأديب الكبير راجي عنايت وسلسلته ” أغرب من الخيال” وكتاباته عن عوالم الغرائب والمغامرات. فقد كان من أوائل الكُتاب الذين كتبوا عن علوم ماوراء الطبيعة “الميتافيزيقا ” وكان كتابه ” الخروج من الجسد” عن تجارب مَن على حافة الموت وإختبارعالم الروح والرجوع ثانية للحياة ” وكيف فتح هذا الكتاب عيني على تجارب الناس مع الموت وعلى عوالم مسافرة تحت سطور كتاب وعلى متن حرفه.
تعلمت منهم كيف أرسم بالكلمات تأملاتي ومآسي الناس الحياتية من حولي بدلاً من الرسم بقلم الكُحل و أحمر الشفاه. منهم تعلمت حياة الكفاف وسط الجفاف وأن أرسم وألون الحياة وأحلامها بمخيال الحرف لأستمر وسط منافي الحياة. فالكاتب لا يستطيع الكتابة إلا من فيض مخزونه العُمري وأسئلته الحائرة وتعلمه من واقعه ومخزون قراءاته وخبرة تجاربه، فلا نستطيع أن نتخيل إلا ما نعرفه ونلمسه بوجداننا ويقع بين يدينا ونحمله من واقع تفاعلنا المجتمعي. أن تصير كاتباً معناه أن تعرف كيف تنتزع متعة الحرية على متن كتاب تسافر فوق عطره وأنت لم تبرح أمكنتك. ترتشف سطوره فتشكل وجدانك فيفيض حرفك ويتشكل قلمك من كيانك وقلبك. أتذكر هنري ميللر عندما قال: ” عندما تحين الآخرة لا أريد أن أعيش حياة ملاك، أريد أن أكون أنا نفسي، جون ستيمير ، بكل مشاكلي اللعينة ! أحتاج إلى وقت ﻷتمعن في الأشياء ألف سنة أو أكثر”. أن تقرأ كتاباً أياً كانت نوعيته فكأنك تتعاطى نوع من المخدرات وأن يكون فأساً للبحر المتجمد فينا، كما قال” فرانز كافكا”. أن تقرأ كتاباً يعني أن تتنفس سطوره الحيَّة لتنهل منه خبرة السابقين. فلماذا ندع الناس يسلبونا حقنا في حرية التعبير والإبداع فهم عنواننا وهويتنا الحقيقية وأثمن ما نملك في الحياة ؟.
الوسومنانا جاورجيوس
شاهد أيضاً
من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!
كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …