محمد شلبى أمين
كعادتها..مع أول نسمات الصباح ،أمسكت يدى قابضة عليها بقوة ،جرتنى خارج البيت جرا ..فى الطريق إلى المدرسة ،لا أطاوعها محاولا التفلت منها..متباكيا.. .لبن..ثم باكيا.. لبن ..ثم صارخا..لبااااان..،حينما تسمع هذا الصوت الصادر من حنجرة فولازية ..متجددة ..لاتتخيل أبدا أنه لطفل ..أتغنى بالكلمة طولا وعرضا..أفتح فمى ،أعانق السماء بصوتى ،أقهر النسيم، أفجر الأرض من خلفى، تحاول إسكاتى متلفتة خجلة يمينا ويسارا..حاضر..بكرة هااجيب لك لبن ..لما الست تحلب الجاموسة، هى تجرنى ..وأنا أصرخ،صرنا بمحازاته..يقف ككل يوم بعد أن يصلى الفجر فى الفناء يتنسم الهواء النقى ويستعيد ذكرياته وأمجاده،استوقفها، بأدبه المعهود..لم يغب عنا ..أحضركوب اللبن الذى أعده لنفسه..مددت يدى فى لهفة ..لم أنظر لعينيها الزاجرتين، أخذت الكوب،رفعته ولم أخفضه إلا بعذ أن تعلق لسانى بآخر قطرة،وخط خطه الأبيض فوق شفتى ،بين ابتسامته الصافية وخجل أمى ..لا أبالى ،اعتدل مزاجى ،هدأ صوتى،سكنت جوارحى الظامئة،جذبتنى فى عنف وحيرة ، شكرته هامسة ووجهها فى الأرض ،والله أبوه مش حارمه من حاجة.
قال فى رضا: لاتشغلى بالك ..هكذا كنت وأنا فى مثل سنه،أرجوك اجعليه يمر علىّ كل صباح..سأنتظره غداوكل غد،انصرفنا،وعاد إلى موضعه.
فى الصباح التالى حدث ماحدث أمس ، حاولت أن تبعدنى عن موضع انتظاره لكنى أفشلت محاولاتها بالتفلت ،جريت نحوه ،يحمل كوب اللبن الدافئ وينتظرنى، أنهيت طقسى الذى أصبح يوميا بعد ذلك .
ذات صباح قال :ادع أصدقاءك غدا لنتناول اللبن سويا قبل الذهاب إلى المدرسة .
ليته ماقال..أطلقت لسانى بين زملائى ،ذهبت فى الصباح وجدتهم يلتفون حوله ..كل يحمل كوبه ..ينتظرنى حاملا كوبى،شربنا وضحكنا وهويمازحنا، قطع علينا ضحكاتنا البريئة: الذى يستطيع أن يحيي العلم اليوم فى طابور الصباح سيشرب كوبا آخرغدا. انصرفنا وكل منا يتحفز لتحية العلم ليفوز بكوب اللبن ،دارت معركة فى الطابور فزت فيها بتحية العلم مرددا ..تحيا جمهورية مصر الإسلامية ..قال المعلم: العربية..رددت خلفه..وردد التلاميذ.
فزت بالكوب الثانى .كبرت الفكرة فى رأسه ،طلب أن نجمع اللبن من القرية كل مساء لنعده فى الصباح ثم نحمله إلى المدرسة ، نقف أما م الباب يقدمنا ..يعطى كل طفل كوبا من اللبن الدافئ.
يعيش وحيدا بعد أن رحلت قرينته إلى بارئها،وتقاعد من سلاح الدفاع الجوى،فعاد ليمضى مابقى من عمره فى قريته..التى لم يغير محل إقامته بهارغم رحلاته وصولاته وجولاته،هو أشهروأبرزوأهم أبطال سلاح الدفاع الجوى المصرى ، شارك فى حرب 1967م، وفى حرب الاستنزاف، وفى حرب أكتوبر1973م،لقب بصائد الطائرات،لأنه أسقط ثلاث عشرة طائرة فى غضون ثلاثة عشريوم .
والطريقه التى أنقذ بها منصة الصواريخ يتم تدريسها حتى الآن.
أصبحت فكرة كوب اللبن الدافئ..شغلنا الشاغل ..أطفالاومعلمين،بل أهل القرية أجمعين، زاد إعجابنا الزائد بحنوه وتواضعه ..وهومن هو،اعتدنا على وجهه الباسم ويده الممدودة لنا وحكايات النصر وبطولاته التى أصبحت دافعا قويا لتصارعنا على تحية العلم ،لم يعد من أجل كوب اللبن ،إنما أصبح محبة له وأسوة به.
فى صباح ليس ككل صباح ..انتظرناه لنرى وجهه الباسم ويده الممدوة، وحكاياته عن الصاروخ الذى أطلقه فأصاب به طائرتين إسرائيليتين فى وقت واحذ..وهو يصرخ “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى “(1).
الصباح مظلم ،الجوبارد ،براءة الأطفال تجاوزت المدى ،
لم أطق صبرا ..انسللت من بينهم قفزاإلى منزله ،قبل أن أدخل الفناء وجدت المدرسة بأكملها تزاحمنى الدخول ،لم نطرق الباب ، وجدناه متعلقا بالقدر..يحتضنه،سألناه عن سبب تأخره، مبتسما لم يجب ،هززناه، سقط ،وسقط القدر ليملأ المكان باللبن الدافئ، زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر،صرخنا،ملأنا الأرض بصراخنا ،حضر أهل القرية ،سمعنا الهمهمات ..رأينا الدموع فى العيون ..سمعنا كلمة مات،غسلوه،وأرادوا أن يذهبوا به إلى المسجد ليصلوا عليه وجدونا نقف طابور الصباح وأنا أحيى العلم وهم يرددون خلفى ..
تحيا جمهورية مصرالأفريقية..قال المعلم: العربية،رددت خلفه،
تحيا جمهورية مصرالعربية ..
وتحيا أنت يا سيدى فينا ما حيينا.
من يومها لايمرأحدنا ببيته إلا ويقف انتباه ..ويرفع يمناه بمحاذاة رأسه.. تعظيما لروحه.. محيياالعلم.
—————————————-
(1) – الآية: 17،سورة: الأنفال : ( ومارميت إذ رميت
ولكن الله رمى ) .
(2) – من وحى بطولة (الشهيد المقدم / أحمد حسن أحمد(
الوسوممحمد شلبى أمين
شاهد أيضاً
من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!
كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …