في يوم مضى كان العالم أكثر تواضعاً رغم أنّ الاستبداد على الأرض موجود حتى قبل ميلاد المسيح. كلّ الأنبياء-وكلّهم أتوا من بلادنا- كانت دعوتهم الأساسية مكافحة الظّلم.
لو كان لنا الحريّة في تغيير عقائدنا لاستطعنا اختبار إيماننا، ومن ثم اختيار ما يناسبنا، وفي الحقيقة نحن نختار من خلال تربية أطفالنا حيث لا يكون الدّين حاضراً بقوّة في بيوتنا، أو بمعنى آخر لا نزرع فيهم ثقافة العداء للآخر.
كان أبي والذي ربته جدّتي ” أمّه” لأن والده توفي في طفولته له دين مختلف.
درس عند شيخ الكتّاب يوماً واحداً، وغادر إلى فلاحة الأرض وزراعتها وهو في العاشرة من عمره. كانت الأرض هي مصدر إلهامه وإيمانه، أبدع في اللغة العربيّة فيما بعد ، وفي الإعراب أيضاً.
كانت أمي يتيمة الأم ربتها في طفولتها سيدة أرمنية من الذين نجوا من مجازر تركيا ، بقيت في ذاكرتها إلى أن رحلت عن الحياة.
لم تكن أمي تمارس العبادات، فهي مشغولة بنا، لكنّها مؤمنة جداً. لا تعرف سوى اسم الله، أما جدّتي فقد كانت تذهب إلى الصّلاة في كل يوم مساء. الصلاة حسب تقاليدنا نحن الأقليّة الإسماعيلية في سورية، وكنّا نفرح عندما تعود، لكنّها في بعض الأحيان لا تذهب ، فنسألها: لماذا لم تذهبي يا جدتي؟
تقول لنا باسمة: هل هي عبادة؟
أمي لا تحبّ أن تذهب، وتبرّر ذلك بانّ الله يفهمها، وسيحاسبها وفق ذلك ، وحتى أبي ما رأيته يذهب إلا نادراً. كان محباً للعلم ،وللأرض.
أتيت من تلك البيئة، والكثير من بيئاتنا السّوريّة مشابهة عند جميع الأديان، فعندما كنا نذهب إلى دير صيدنايا، ونشعل الشموع كنّا خليطاً من جميع الأديان بمن فيهم صديقاتنا من اليهود الذين عاشوا في نفس أحيائنا في حلب والقامشلي ودمشق.
كانت جدتي تجلس في مجالس الرّجال على ناصية الشارع، وتسوق عربة بحصانين إلى مدينة حمص كي تبيع محصول الأرض من الحنطة، تواجه الدّرك في ذلك الحين الذين كانوا يريدون مصادرة الشحنة.
علمنا أهلنا أن الدين هو العمل بجدّ والتّواضع دون أن يذكروا لنا شيئاً عن الحساب ، والعقاب، ودون أن يسدون لنا النّصيحة. تعلّمنا ذلك عن طريق التّربية المصاحبة للحياة.
عندما كنا نبالغ قليلاً في المظاهر كان أبي يقول لنا تقشّفوا في الأفراح والأحزان.
وعندما ندّعي المعرفة كانت جدّتي تقول:
كنت بزماني غنّي ع الهوى. . . كنت مشّي الدّيب والنعجة سوا
تربيتي الأولى عانقتني على مدى حياتي، أرى الإيمان صدق ومحبّة. عندما تصلني دعوات مؤمن أفهم إن كانت صادقة أم من أجل المظهر أمام النّاس.
الإيمان هو ذلك الذي نشأنا عليه في الطفولة ، وقد كان سائداً في سوريّة. كان نمط حياة، فعلى مصاطبنا تعانق المسيح والهلال، ولجأ إلينا الهاربين من ظلم الدّولة العثمانيّة.
نحن اليوم ليس نحن. تغّيرنا. فلسفة الاستبداد دخلت إلى قلوبنا، ومن بينها الاستبداد الدّيني، فتلك الدّول التي تحكم شعوبها بالحديد والنّار تحت شعارات دينيّة توظّف الكثير من المفتين، والمحللين والمحرمين في مناطقها، وجميع مناطق العالم، والبشر يستجيبون لأسباب كثيرة منها الفقر، والجهل .
هناك من له مصلحة في بقائنا على هذا الوضع، وأهمّها الرأسماليّة العالمية التي تحتكر كل شيء بما فيها مافيا السّلاح والمخدرات. الرأسماليّة التي تدعمّ المستبدّين في أصقاع الأرض، وتنهب الثروات، وتشعل الحروب. تلك الرأسمالية التي آن أوان سقوطها ليس من أجل أن تحلّ مكانها الاشتراكية التي ثبت فشلها، بل من أجل أن تحلّ العدالة الاجتماعيّة، والكرامة الإنسانية، وإلى أن يحين ذلك الوقت علينا نحن الذين نؤمن بالحياة أن نسعى لتحييد الدين في علاقاتنا، والعمل على تحييده في مجتمعاتنا من خلال جعل الدّولة غير دينيّة.
إلى جميع المحتفلين بالأعياد:
كل عام وأنتم بخير
عام سعيد على الجميع