فى عصرنا يحلو للبعض أن ينظر للغرب بأنه مبدع الإنسانيات ومصدر الحريات وأصحاب الحضارة التى تحترم الإنسان. وحين يحلم الشباب بالهجرة وترك بلادنا وتسألهم لماذا؟ أول ما يقولونه إننا نريد أن نعيش فى مجتمع يحترم الإنسان. وهباءً نحاول أن نقنعهم أنهم سيذهبون إلى بلاد وقيم وأفكار مختلفة وأنه مهما عاشوا لن تكون تلك البلاد بلادهم ولا الجذور جذورهم وأن تلك البلاد ليست كما يتصورون من الإنسانية والبراءة، ولكنهم متطورون فى النظم والإدارة وتحقيق القانون وإن كانت الإنسانية عندهم تسحق وتُهان حينما تمس مصالحهم الشخصية. واسمح لى عزيزى القارئ أن أطلعك على إنسانية أجدادنا التى لا يعرفها البعض ويتخيلون أنهم تركوا لنا فقط أحجارا ونقوشا، وهذا لأننا لا نزال مقصرين فى تعريف الأجيال الجديدة بقيمة مصر وحضاراتها عبر السنين، وإن الحضارة لم تكن من فراغ بل من عمق إنسانى وتراكم إنجازات عبر آلاف السنين. فأجدادنا قبل أن يبنوا الأهرام والمسلات والمعابد بنوا الإنسان واهتموا بالروح قبل الحجر. وأسوق لك عزيزى القارئ قصتين من قصص الأجداد لهما معزى مهم. الأولى ما يسمى فى التاريخ «الفلاح الفصيح» وحدثت عام (2133 ق. م.) أيام الأسرة العاشرة حين كان يملك «أختوى الخامس» وبطل القصة فلاح يدعى «خوإن أنوبس من وادى النطرون أراد أن يذهب للعاصمة «أهاناسيا» فى ذلك الحين (هى غرب بنى سويف الآن) للتجارة فحمل تجارته على حميره وعند دخوله المدينة رآه عمدة البلدة وكان ذا مركز كبير وصديقا لقاضى البلدة، وطمع العمدة فى تجارة الفلاح البسيط وأراد أن يستولى عليها ففرش فى الطريق العام وجلس يأكل فطلب منه الفلاح أن يفسح له الطريق ليعبر فرفض فاضطر الفلاح أن ينزل إلى الحقول التى كان يمتلكها العمدة وأكل حماره من الحقول فقام العمدة واستولى على تجارة الفلاح بحجة أنه تعدى على حقوله. وشعر الفلاح بالظلم فكتب خطابات تظلم إلى القاضى فلم ينصفه لأنه كان صديق العمدة. فلم يسكت الفلاح ولم يعد إلى بلدته بل ظل يكتب خطاباته إلى الفرعون الذى أعجب بتلك الخطابات وأسلوب الفلاح فى عرض قضيته وفصاحة كلماته التى تكلم فيها عن مسئولية الحاكم فى الدفاع عن المظلومين وتحقيق العدالة وأنه يفضل أن يموت من أن يعش مقهوراً. واستمر يرسل الخطابات ولم يأت له الرد وفى آخر خطاب قال فيه إنه سيشكوا الفرعون إلى الإله أوزوريس ليأخذ له حقه. وبعد هذا الخطاب استدعاه القاضى وطلب منه أن يأتى ويأكل معه علامة على تقديره له فرفض وأرسل له يقول إنه لن يقابله أو يأكل معه لأنه ظالم، تصور معى عزيزى القارئ أن هذا هو سلوك فلاح بسيط فى مواجهة ظلم قوة استبدادية فى تلك الأزمنة. وذهب إليه القاضى وأطلعه على كل رسائله التى أرسلها إلى الملك وأعلن له سر عدم تحقيق العدل وهو أن الملك كان معجبا بتلك الرسائل وأراد المزيد ليستمتع بأفكاره وأسلوبه، وأنه طيلة هذه الفترة كان يرعى عائلته، وقابل الفلاح الملك الذى عوضه عن الظلم الذى وقع عليه. والمثير للفخر أن هذه القصة كانت تدرس فى المدارس للأطفال حتى يتعلموا حقوقهم وكيف لا يفرطوا فيها. والقصة الثانية يحكيها الملك «خوفو» لابنه عن أبيه الملك «سنفروا» (2513 ق.م.) وهى قصة تحمل دلالة إنسانية عالية القيمة أراد «خوفو» أن يربى ابنه عليها وتقول القصة إن «سنفروا» ذات يوم استيقظ بمزاج سيىء واستدعى رجال القصر وشكى لهم من ضيقه واكتئابه، فجاء رئيس الكهنة ودبر له نزهة فى بحيرة القصر فى قارب فيه عشرون فتاة تغنى وتعزف ألحانا مفرحة. وانشرح «سنفروا» بتلك النزهة ولكنه لاحظ بعد فترة أن إحدى الفتيات المغنيات حزينة ولا تغنى فسألها عن السبب فقالت إن مشبك الشعر الخاص بها سقط فى البحيرة، فعرض عليها أن يحضر لها آخر أفضل منه فرفضت لأنها تحب هذا المشبك، فأمر «سنفروا» رئيس الكهنة أن يجد طريقة لتجفيف بحيرة القصر من المياه ليجدوا هذا المشبك وفعلاً حدث هذا ووجدوه وفرحت الفتاة. تلك هى صورة أجدادنا فى تلك العصور وما كان يحمله الحكام من مشاعر للشعب المحكوم، تلك هى حضارتنا التى يجب أن نعلمها فى المدارس وبيوتنا، فالأجداد لم يكن سر عظمتهم فقط فى العلم والبناء والغنى ولكن قبل هذا كانت عظمتهم فى أخلاقهم وتأسيس المملكة على العدل والخير والحب.
الوسومالقس انجيلوس جرجس
شاهد أيضاً
“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “
بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …