تزخر الدورة الـ12 (9 ـ 16 ديسمبر 2015) لـ «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، بكَمٍّ كبير من الأفلام حديثة الإنتاج. التنويع عاديّ في مهرجان يطمح إلى أن يكون فاعلاً في دعم واضح لنتاجات سينمائية عربية تحديداً، عرضاً وإنتاجاً ـ تمويلاً. يغيب «مهرجان أبوظبي السينمائي»، فيجد مهرجان دبي نفسه أمام تحدّ أكبر، ومسؤولية أعمق إزاء صناعة الفيلم العربي. «صندوق سند» (أبوظبي) مستمرٌ في برنامجه التمويلي. «صندوق إنجاز» يتابع اشتغالاته. لكن الفيلم العربي لم يعد يملك سوى مهرجان دولي واحد في منطقة الخليج العربي، كي يُقدّم نفسه في حيّز جغرافي ـ ثقافي ـ اقتصادي يولي السينما أهمية في برامجه التمويلية.
عناوين
النتاج العربي بحدّ ذاته يعاني مآزق شتّى، أبرزها غياب متخيّلٍ قادر على صناعة صورة سينمائية. هذا أمر مُكرّر قوله. البرمجة العربية المتعلّقة بالدورة هذه زاخرةٌ بعناوين مختلفة. الأرقام تقول إن حراكاً يحصل على مستوى الإنتاجات، لكن المُشاهدة وحدها كفيلةٌ بتبيان الفرق بينها كلّها. الخليج العربي يجتهد، بدوره، من أجل تثبيت وجود سينمائي شبابيّ ما في المشهد العربي أساساً. «مسابقة المهر الإماراتي» تضمّ 11 فيلماً، و«مسابقة المهر الخليجي للأفلام القصيرة» تحتوي على 15 فيلماً. بالإضافة إليهما، هناك 15 فيلماً في «مسابقة المهر القصير»، و19 فيلماً في «مسابقة المهر الطويل». برنامج «ليالٍ عربية» يتحرّر من المسابقة والمنافسة، ويُقدّم بعض الجديد أيضاً (11 فيلماً). الأرقام تعكس شيئاً إيجابياً متواضعاً، لأنها تؤكّد وجود حراك كهذا. لكن صوابية الحراك وفاعليته لا تكتملان من دون غربلة، والغربلة وحدها كفيلةٌ بـ «إنقاذ» الجيّد والمستوفي شرطه الإبداعي من كلّ عمل عاديّ ومسطّح.
الوقت، بالنسبة إلى غربلة كهذه، باكرٌ في «مهرجان دبي السينمائي» الحالي. الدورة الـ12 مستمرة في تقديم أفلام عربية في المسابقات والبرامج كلّها. المعالم الأولى تتضّح عبر أفلام قليلة معروضة في الأيام السابقة. أبرزها اثنان: «باريسية» (أو «لا أخاف شيئاً» كترجمة حرفية للعنوان الفرنسي الأصلي) للّبنانية دانييل عربيد (المهر الطويل)، و«مدام كوراج» للجزائريّ مرزاق علواش (ليال عربية). «جيلان» سينمائيان مختلفان تماماً أحدهما عن الآخر، ومتشابهان معاً في إيلاء الصورة واللغة البصرية حقّها في التعبير والبوح والمقاربة. القسوة عاملٌ مشترك بينهما. أما الاختلاف، فحاصلٌ في الأمكنة والبيئة الاجتماعية والمسارات الخاصّة بالشخصيتين الرئيستين.
في «باريسية»، لن تكون «صدمة الغرب» شبيهة بتلك الحاصلة سابقاً لدى شباب عرب يكتشفون القارة القديمة في أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته وستينياته. الاختلاف بين الصدمتين نابعٌ من اختلاف الزمن والعصر ولغتهما وسلوكهما. لينا كرم (منال عيسى) تغادر بلدها (لبنان) مطلع التسعينيات الفائتة (1993) لدراسة الاقتصاد في باريس. الصدفة وحدها تُدخلها إلى محاضرة عن الفن. تعيش يوميات مثقلة باكتشافات و «خبطات» قاسية وآمالاً متوهَّمة. تلتقي شباباً فرنسيين بعضهم الأول يريد جنساً، وبعضهم الثاني حبّاً معلّقاً، وبعضهم الثالث خلاصاً من بؤس وشقاء. تنظر إلى المشهد أمامها وتغرق فيه أيضاً، فترى تمرّداً مبتوراً، وصدامات ملتبسة، وانقلابات عيش وسلوك. عائلتها اللبنانية تتفكّك وتنهار. عالمها الباريسي يكاد ينغلق في وجهها. اللحظة الأخيرة تمنحها شيئاً من راحة مطلوبة. عمر (عدلان جميل)، في «مدام كوراج»، مختلفٌ. منتمٍ هو إلى العالم السفلي للجزائر العاصمة. مقيم فيه إلى أقصى حدّ. سلوكه مضطرب، وتوتره عنيف. الفقر مدقع. السرقة وظيفة تمنحه قدرة ما على شراء حبوب مخدّرة تُسمّى «مدام كوراج». النفايات في الشوارع دليلٌ على انهيار نظم حياتية متينة ومريحة. أمه محتاجة إلى مدخول يعينها على الاستمرار، وإنْ وفق شروط الفقر والقهر والألم. ابنتها (شقيقته) تعمل في الدعارة، وقواعد المهنة مريرة. لكن عمر يكتشف أن فيه جانباً حيّاً وإنسانياً. يسرق عقداً ذهبياً من رقبة صبيّة، لكنه يلاحقها ليُعيده لها. شيء من حبّ مخفي، أو لحظة تعرّ أمام مرآة الذات عبر الصبيّة؟ ربما. يسقط عمر في ما يُشبه المحظور الاجتماعي ـ الانفعالي: أمثاله مطارَدون من محيط رافضٍ لهم، مع أن المحيط لا يختلف كثيراً عنهم.
لغة سينمائية
التركيبة السينمائية في «باريسية» متماسكة في سردها مسار لينا كرم وتقلّباتها وصداماتها وعيشها. العلاقات التي تبنيها مع آخرين جزءٌ أساسي من متانة اللغة في القول. السياسة حاضرةٌ، لكن الأهمّ كامنٌ في براعة لينا إزاء امتصاص الصدمات، وتحويل المأزق إلى فعل عيش. منال عيسى تؤدّي دورها بشفافية وواقعية. ترتبط بعلاقة جميلة بالكاميرا السينمائية، التي تُدرك حساسية وجهها وحركتها، فترافقها بجمالية وصدق. عدلان جميل انعكاس مؤثّر لقسوة الخراب المعتمل فيه وفي محيطه. ملامح الوجه وحركة الجسد والنظرات والكلام القليل أمورٌ تصبّ كلّها في مصلحة الشخصية والدور. الكاميرا، هنا أيضاً، ترتبط معه بعلاقة حبّ. يمنحها «براءته» وعفويته، فتعطيه مدى واسعاً لحراك جسدي وروحي، هو جزءٌ من حراك البيئة المقيم فيها.
تستمرّ دانييل عربيد في مقاربة حكاياتها اللبنانية الخاصّة بلغة صارمة. لا تهادن ولا تثرثر. تفكّك المظاهر، كي تعرّي وتكشف وتفضح. في جزء أساسي من سيرة لينا كرم في «باريسية»، تحتل العائلة مكاناً جوهرياً، وإنْ لم يظهر بعض أفرادها طويلاً على الشاشة. حضورهم أقوى في خلفية أو في سلوك تكشفه لينا بكلام عابر أو بحركة وهي تتحدّث عبر الهاتف مع والدتها. قلق الابنة في باريس الصاخبة يحتاج إلى مُسكّن تريده الصبية من والدة غارقة في مآزقها وقلقها وارتباكاتها. والدة عمر في «مدام كوراج» تبدو مستسلمة لخرابها الكلّي. لا حيلة لديها تُخرجها من الموت اليومي. صداماتها كثيرة داخل عائلة مكوّنة من 3 أفراد. مرزاق علواش غير معنيّ بمسألة التفكيك العائلي، لأن العائلة مفكّكة أصلاً، والعالم السفلي دليل على هذا.
انكفاء الجزائريّ مرزاق علواش عن استخدام الموسيقى أساسيّ في بناء عالمه السينمائي عبر «مدام كوراج». ترتفع حدّة القسوة والعنف المبطّنين، مع غياب الموسيقى، وتحويل الواقع بأصواته وأشكاله وصُوَره إلى عوالم سينمائية. الموسيقى صاخبة أحياناً في الملاهي الليلية الباريسية، كما في اضطراب الذات الفتيّة والجميلة للينا كرم. لكن الأساسيّ في «باريسية»، سينمائياً، حاضرٌ في خطّ دراميّ متين الصُنعة: سيناريو «مشدود» ومكثّف ومبني على سيرة لينا وحكاياتها؛ وكاميرا تلتقط نبض باريس بألوان أكثر إضاءة وتفتّحاً (غالباً) من تلك المستخدمة في بيروت (حيث المرض والاضطراب والتمزّق أعنف وأقسى)؛ وتوليف هادئ لكنه قادر على إشاعة الاضطراب والتوتر بصرياً بشكل بديع.
فيلمان عربيان جديدان ينتميان إلى فعل إبداعي يعكس مرارة واقع، وخيبة فرد، وانهيار بيئة. وهذا كلّه ضمن فعل سينمائيّ يحيل الصورة إلى بوح، ويضع اللقطات في مرآة ذات وهواجسها.