الأحد , ديسمبر 22 2024
ميخائيل بشرى

مبادئ أساسية لحل المشكلات الكنسية (6)

(الخدمة الروحية أساس عمل الكنيسة وهي لا تحكم في أمور العالم)
بقلم : ميخائيل بشرى
عندما أتى رجل إلى السيد المسيح يقول له شاكيًا: “يا معلم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث”، أجابه السيد المسيح قائلا: “يا إنسان، من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما؟” (لوقا 12: 13- 14)، معطيًا إيانا مثالا لما يجب أن يكون عليه أتباعه من رجال الدين عبر العصور، بعدم التدخل بالحكم في منازعات أرضية عالمية، والاكتفاء بالدور الروحي في مثل تلك الأمور، وهو ما نجده في تعقيبه على كلام السائل عندما قال للجموع: “انظروا وتحفظوا من الطمع، فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله” (لوقا 12: 15)، وهي الوصية التي إذا تم تنفيذها تلاشت مشكلة السائل من جذورها، ولم يعد لها أي وجود.
وعندما أتى إليه قوم من الفريسيين والهيرودسيين يجربونه قائلين “أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا”، علم السيد المسيح ريائهم وطلب منهم دينارًا لينظره، وسألهم “لمن هذه الصورة والكتابة؟”، فأجابوه: لقيصر، فقال لهم: “اعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (إنجيل مرقس 12:12-17)، وهنا نجد أنه تجنب- بحكمة غير معهودة- الدخول في مجادلة حول مدى موافقته أو رفضه الشخصي لحكم الرومان، كأمر سياسي بحت يقرره الشعب، الذي طالما يقبل بوجوده ويتعامل بالعملة التي تحمل صورته، فيجب عليه أن يوفيه حقه. ولذلك، لم يطالب السيد المسيح يوما بالثورة على الحكم الروماني، كما أنه لم يطالب بالإبقاء على الوضع السياسي كما هو عليه، بل ترك الحكم للشعب في الأمور السياسية ليفعل ما يراه مناسبا. ولعل قوله “اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، يعني أن الله لا يطالبنا بتصرفات معينة فيما يتعلق بأمورنا الحياتية الأرضية، ولكنه يترك تلك الأمور لرؤية كل إنسان دون أن يتجاوز المبادئ الروحية الصريحة الموصى بها، والتي يجب أن يلتزم بها كل مسيحي، ويعتبر عدم التزامه بها خطية تستوجب العقوبة الأبدية.
لم يأت السيد المسيح ليملك على الأرض ملكًا عالميًا، أو ليصدر أحكامًا عالمية ويسيطر على كل ما يتعلق بحياة الإنسان من خلال قوانين وشرائع ملزمة يصعب التنصل منها كما يفعل ملوك العالم، وإلا لكان قد قبل هذا الأمر من اليهود، الذين أرادوا مرة أن يأخذوه ليجعلوه ملكًا، كما جاء في إنجيل يوحنا “وأَما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا، انصرف إلى الجبل وحده” (يوحنا 6: 15)، بل أنه قال صراحة لمن يدّعون أنه جاء ليأخذ ملكًا عالميًا “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو 18: 36).
وما فعله السيد المسيح فعله الرسل أيضًا.. لم يسع الرسل لتوجيه الناس لإتخاذ مواقف سياسية معينة بما يخدم مصالحهم أو حتى مصالح أتباعهم من المسيحيين، أو بما يجعل المسيحية أسهل وأسرع انتشارًا. لم يطالب الرسل بالثورة على الحكام الظالمين الذين يضطهدونهم أشد الاضطهاد دون سبب، بل طالبوا بالصلاة من أجلهم وطاعتهم طالما كانت أوامرهم لا تتعارض مع وصايا الله، فنجد القديس بطرس يأمرنا بالخضوع للرئاسات الأرضية في حدود اختصاصها قائلا: “اخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب” (1 بط 2: 13)، ولكن ذلك لا يعني طاعة الرؤساء في أمور تتعلق بحياتنا الروحية أو بإيماننا، لأن هذا ليس من اختصاصهم، فإن كانت الطاعة في الأولى واجبة لأنها تدخل في إطار “ما لقيصر”، فإن الطاعة في الثانية مرفوضة لأنها تدخل في إطار “ما لله”، ولذلك فيما يتعلق بالأمور الروحية نجد أن الرسول بطرس، الذي أوصى بالخضوع للرئاسات، يقول: “ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس” (أع 5: 29).
وقد يقول قائل: أليس رجال الدين هم أيضًا مواطنون، ومن حقهم أن يكون لهم رأي سياسي، أو موقف تجاه ما يجري في الدولة؟ والواقع أننا لا نستطيع تجريد رجل الدين من حقوقه السياسية كمواطن داخل الدولة، ولكننا نرى أنه طالما قبل أن يصبح رجل دين، فعليه أن يخضع لمتطلبات عمله كرجل دين، والتي من أهمها اقتفاء أثر السيد المسيح وأثر تلاميذه، وسلوكهم في هذه الأمور كما أشرنا من قبل.
فمن حق رجل الدين مثلاً أن ينتخب من يريد، أو ما يراه مناسبًا من بين المرشحين، ولكن ليس من حقه توجيه الناخبين لاختيار شخص معين، فالأول واجب وطني يجب ألا يتخلى عنه، أما الثاني فهو عمل سياسي بحت لا علاقة له به.. من حق رجل الدين أن يرفض سلوكًا معينًا يراه ظالمًا من قبل أي رئيس مثلًا، باعتبار أنه صوت للحق، ولكن ليس من واجبه ولا متطلبات عمله أن يطالب بالثورة ضده أو رفضه كشخص.. من حق رجل الدين أن يوجه الناس في حياتهم الروحية، ولكن ليس من حقه أن يجبرهم على اختيار شخص معين في الانتخابات، أو الالتحاق بعمل معين دون غيره، أو بكلية معينة دون سواها، أو غير ذلك من الأمور الحياتية الأخرى.
وتكمن أهمية الفصل بين هذه الأدوار في الصورة التي يراها الناس في الكاهن باعتباره ممثلا لله على الأرض، وممثلا للكنيسة، وبالتالي لا تُحسب أقواله عليه فحسب، بل على الكنيسة أيضًا، فإن أخطأ في رأي سياسي، أو تصريح أو حكم، لا يتحمل هو وحده نتيجته كما يتحمل أي مواطن عادي، ولكن تتحمل الكنيسة وشعبها تبعات مواقفه، الأمر الذي يجعل ابتعاد رجل الدين عن السياسة ليس عملاً ضروريًا باعتباره وصية إنجيلية فقط، حيث أن تدخله كرجل دين في السياسة يتنافى مع إيمانه بقدرة الله غير المحدودة على تغيير مجريات الأمور كما يريد وأن يحفظ شعبه مهما كان شخص من يحكم كما حفظهم طوال كل العصور، ولكنه ضرورة أيضًا من أجل استمرار صورة الكنيسة نقية أمام شعبها وأمام العالم، بعيدًا عن مهازل السياسة.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.