بقلم نانا جورجيوس
جريدة الاهرام الكندى
أتذكر أني كنت أحلم أن أشارك في مسابقة من سيربح المليون لجورج قرداحي وظل الحلم يروادني ويدفعني لملاحقة المسابقة كلما أعلنوا عند بدء دورتها الجديدة ما بين لندن لفرنسا لمصر لبيروت خلال رحلة تنقّل البرنامج لأني كنت أؤمن أن قدراتي المعرفية والثقافية أكبر من الثلاثين سؤال إللي بيتم سؤالهم للمتسابق عبر الهاتف ليؤهلونه لشرف الجلوس على الكرسي بفخر، وربما يربح المليون أو حتى ربع مليون أو حتى ألف ريال الأولى، في جلسة لن تستغرق منه أكثر من ربع ساعة مع كثيراً من القلق وتصبب العرق مابين خجل وخوف كبيرين. فبقيت أشارك يومياً بالأسئلة حتى أستيقظت في السابعة مساءاً على رقم غريب من خارج مصر ولم أعتد أبداً أن يتصل بي أحداً من الخارج. فقالت لي المتصلة مدام نانا فلان الفلاني، فقلت لها نعم. قالت أنا مُعدة في برنامج المليون لجورج قرداحي وانت إتصلتِ للمشاركة فهل مازلتِ تريدي المشاركة؟ شعرت لحظتها أني سأسقط على الأرض من المفاجأة وتسمرت من الدهشة لدرجة أني نسيتها لثواني على الهاتف، فقاطعت دهشتي بسؤالها، أراكِ غير جاهزة لإلقاء أسئلة التأهيل عليكِ، فدون تردد و من وسط ذهولي من اللحظة وخفت أن تغلق الهاتف ولا تتصل ثانية، فقلت لها بأني جاهزة للأسئلة رغم علمي أن الأسئلة صعبة وعلى مستوى أعلى من قدراتي العلمية والتخصصية وحتى المعرفية، وتُقسم على خمس أو ست مجموعات من مختلف مجالات العلوم الثقافية وأيضاً الدينية والتاريخية الإسلامية حتى أسئلة التواريخ والأرقام والحسابات لقياس نسبة الذكاء وسرعة البديهة والتصرف. ومطلوب مني الإجابة في جزء من الثانية وإلا يعتبروني بأبحث عن الإجابة من مصدر مفتوح لدى. فقلت في نفسي إن ربنا هو إللي رتب هذا الإتصال هو من سيمنحني الفرصة للنجاح وإلا ما كان أتاح لي هذه الفرصة لو كنت سأخفق لعدم إستعدادي لتلبية المفاجأة. فسألتي ثلاثون سؤال بالتمام أجبت عليهم بما فيهم الخمسة أسئلة الدينية. أجبت على كل أسئلتها إلا ثلاثة أسئلة في الأدب التاريخي منهم سؤال عن إسم صاحب كتاب لم أسمع به ولا عن صاحبه وسؤالين تاريخيين .
وكانت المسابقة هذه المرة يتم تسجيلها في بيروت. فسافرت وكلي سعادة أني سأرى أخيراً لبنان الذي كم حلمت أن أراه وكنت أبكي عليه في حربه ضد أعداء حريته وأني أشعر بجرحه العميق الذي كنت أتابع جميع الحروب التي مرت على لبنان من خلال الشاشة وحاسة بكل ما يعانيه من ألم وموت أناسه وتدمير مدينة بيروت الجميلة بالصواريخ التي كنت أراها كل فترة تدكها إسرائيل بكل قسوتها وجبروتها بصواريخ الكراهية وبعدم ضمير في أن ترحم شعبه من المسالمين. بيروت التي تحمل شعلة العلم والمعرفة في الهلال الخصيب و ربما في كل المنطقة العربية وكل العرب يحسدون هذا الوطن الذي ضم فيه كل الجنسيات والثقافات والعلوم. فهو بحق وطن إستحق أن يصير “باريس الشرق”وكان يكفي بيروت أن يخلدها نزار قباني بلقب ” ســــت الـــدنيا” لأنها مدينة النور الثقافية بادبائها ودور نشرها.و أن تدعى ” أم الشرائع” لأنها اول دولة في الشرق العربي عرفت نظام الجمهورية عام 1926 رغم الإحتلال الذي كثيراً ما كبلها وأعاق تقدمها ورغم كبواتها ونكباتها التاريخية الدامية والتي مازالت تعاني آثاره الذي حفرت جواها جروح غائرة ونحتت فوق ملامحها شيخوخة مبكرة .
ذهبت بحلمي لتلك البلد وفي حي الحمراء بدون تردد وهو أرقى أحياء لبنان حيث فندق روتانا الذي رحب بي وبزوجي كمرافق شخصي، قضيت في هذا الفندق أجمل ثلاثة أيام عمري، كتبت في ذاكرتي أبداً. ذهبت فقط لمجرد أن تطأ قدماي تراب هذا البلد وأرى وجه جورج قرداحي وجهاً لوجه ربما منحني توقيعه على ورقة أو أوتوجراف او حتى على ظهر كتاب بروجرام المسابقة. كان هناك تعاقد لابد أن أملأه وأمضي عليه بموافقتي على شروطهم وسط ترحيب وضيافة كبيرة، اندهشت معها كيف لواحدة مثلي أن تجلس وسط مختلف الجنسيات والثقافات و أنا التي لم أخرج من بيتي إلا عند الضرورة.
ثم أدخلوني للتدريب على أجهزة السرعة لقياس سرعة المتسابق وتحديد نوعية الأسئلة التي يجهزوها سلفاً عندما يتوقعوا فوز أحد المتسابقين (وتخطيه لحاجز سؤال السرعة)، فربحت سؤالين في ترتيب أجزائهم في أقل من جزء من الثانية، من أصل ثلاثة أسئلة تدريبية وسط نظرات الرجال السبعة لأني كنت المرأة الوحيدة المشاركة بينهم. كل هذا ولم أرى وجه جورج الذي كان يتابع كل المتسابقين الثمانية عبر شاشة داخلية في مكان ما بالإستوديو، سوى أنه ألقى علينا سلامه وهرج معنا ليخفف من حدة التوتر والقلق والخوف وهو يتابعنا في مرحلة التدريب لأنه ممنوع عليه أن يتواصل مع المتسابقين لتخرج المسابقة بنزاهة وشرف معتمدة على قدرة المتسابقين أنفسهم.
وعندما حل أول المساء نحو السادسة. ادخلونا للتصوير وما إن دخلت حتى شعرت برهبة كبيرة لمئات من الجمهور الذين أتوا من أنحاء لبنان والدول العربية لمتابعة تسجيل الحلقة. حتى أن قلبي بدأ عدم الإنتظام في دقاته و أنا أرى أضواء الكاميرات منتشرة في كل مكان. وكل شوية يأتي عامل المكياج ليصحح مكياج الوجه الذي كان يتصبب عرقاً رغم أننا كنا في شهر فبراير وعز البرد والمطر. و دخل جورج وقام عامل المكياج بتعديل مكياجه تحت الأضواء وأمام الجمهور، وأنا في ذهول لكل حركة وكل إستدارة كاميرا وكل مداعبة من المعدين للتخفيف من التوتر الظاهر جداً على وجهي، فكانوا يأتون ويتعمدوا سؤالي عن أي شيئاً لأحس بالأمان.
وبدأت الكاميرات تأخذ وضعها والمخرج يشير للجمهور أن يصفقوا عن لحظة دخول جورج وعند الفاصل بين كل سؤال وأخر. وبدأ سؤال السرعة الأول. لكن أصابعي كانت قد تجمدت من الخوف فبدأت أفقد توازني والأمل في تخطي تلك العقبة وبدأت أصرخ جوايا وأصلي إن ربنا ينجدني واخرج من هذا المشهد لأتوارى. ثم فقدت السؤال الثاني والثالث، وبقيت أخر فرصة التي كنت أحس معها بنظرات جورج بدأت تتجه إلىّ بحدة وغضب لأن الثلاثة متسابقين الأوائل أفشلوا الحلقة لأنهم لم يكونوا على قدر من المعرفة فربح كل منهم ألف ريال وهما قيمة الأسئلة الخمسة السهلة التي يجيب عليها طفل صغير. جائت نظراته في وقت كنت أتمنى معها إنهاء الحلقة لأخرج من لحظات الألم القاسية هذه والتي أرى فيها حلمي يتلاشى ويتدمر أمام عيني و أنا عاجزة أن ألحق به.
و إخفقت أن أجلس على كرسي المليون، رغم أن المسافة كانت ذاك الشبر المميت الذي شُلت فيه قدمي فلم أصله رغم أني تخطيت كل تحديات المعرفة. لدرجة حيرت مقدم البرنامج نفسه. ولكن خوفي صار رهبة كبيرة بحجم العالم في مواجهة الكاميرات والأضواء وأنا لم أعتدها ولم اعتد حتى رؤية بشر بهذا الكم !. نعم كان شبحي الذي يغير مني ورائي، نفسه شبح الإخفاق والفشل، إنه العفريت الذي يلهث وراء كثيرين في كل شارع وفي كل حارة و بيت حتى تسلل داخل أنفاسنا وسبب بؤسنا وشقائنا، وسبب هدم حياة الكثيرين . واحيانا بيكون هو سبب أننا نبحث عن هويتنا الحقيقتة لنخرج مما نحن فيه وعليه، وأيضاً بيكون سبب أننا نبدع ألماً وبكاءاً مراً.
ربما ضيعت موعداً منحته لي الحياة ولكنه كان الدفعة الحقيقية لمواصلة تعلمي ونشر كتاباتي وما تعلمت لمن حولي. و اليوم فقط أعتقد أني وصلت، نعم وصلت لما أشتهي وتأكد لي هذا كلما رأيت الطريق ممتداً بطوله أمامي والعمر لم يكفيني لأركض نحو هدفي الأسمى في الحياة. فصدفة حياتي لم تكن محتاجة لذكاء ولا ترتيب بقدر أنها لحظة غريبة من لحظات الحياة إللي ربنا بيمنحها لقليلين ليخفف عنهم جفاف الحياة ويمنحهم بعدها سكينة نفوسهم وتعزيات أنهم وصلوا لما إشتهوا منها، وكنت من هؤلاء الناس المحظوظين.
صحيح فشلت في الوصول للكرسي ولكني نجحت فيما أنا عليه الآن. وهي أن أعلّم نفسي بالكتابة كل يوم قليلاً.
أحياناً كل همنا بيكون تحقيق حلمنا الصغير إللي بيخلينا منشوفش الأحلام الكبيرة التي لم نفكر أننا نحلمها يوماً. وقد يمر بجانبنا الحلم الكبير ولا نلمحه لأننا غالبا ما بيكون تركيزنا على تحقيق حلمنا الذي نعرفه والذي بقدر إمكانياتنا البسيطة. فالإنسان لا يحلم أبداً إلا بما يعرفه من أشياء تعلمها، ربما لأنه لم يعرف كيف يحلم إلا هذا الحلم الصغير إللي بمقاس أمنية طفل. وربما لأن الأحلام الكبيرة أيضاً بتكون مسئوليتها كبيرة حين تتحقق وتكون أكبر من قدراتنا الفقيرة أو الضعيفة. ولكننا في النهاية نظل قانعين بما في أيدينا من أحلام صغيرة تروادنا كلحن البيانو، نعزفه كل ألم وكل حنين في منفانا البائس و وسط حرماننا من الحياة.
وكان حلمي الصغير أن أرى لبنان الجريح وأن أمشي في شوارعه وأشاهد ملامح معالمه فهو البلد الوحيد الذي حلمت أن أزوره ولا أعرف لماذا؟ وتحقق حلمي الصغير، فرأيته.