الإثنين , ديسمبر 23 2024

أنت الغريب،الشعلة الزرقاء، أنت مصيبتي منذ أعوام

نانا-258x300
نانا جاورجيوس

نانا جاورجيوس تكتب :

« أنت، الغريب» تلك المقالة التي خطتها يداها ولم تكن تدرك معنى الحب ولا أيهما بدأ قصيدته أولاً، وربما كانت تبحث عن صوته بين جميع الأصوات التي كانت تصلها أو ربما كانت تبحث عن روح ترافقها رحلة الآلام. و ربما جائتها أوقات من المحن ألمت بها فندمت أنها كانت بهذا القدر الكبير من الصراحة والوضوح في مشاعرها.
و لمي زيادة حياتها الأدبية وصالونها الأدبي الذي خرج منه طه حسين والعقاد والمازني و يعقوب صروف ومصطفى صادق الرافعي. ولكن الحديث هنا عن حياة مي كعاشقة للحياة رغم ألم الوحدة وما عانته طوال حياتها فلم تكن تتكلم عن الجانب الشخصي و الخفي في صالونها، ذاك الجانب المتألم والملتصق ألمه بجنبات صدرها.
36 رسالة حب في حب يا ميّ على مدار عشرون ربيعاً. رسائله كانت كل عزائكِ في أحلك أيامكِ. حروف قصّرت المسافة بين نيويورك والقاهرة ولكنها زادت مساحة غربتكِ وسيف حاد إسمه «جبران والأنين». ليظل حبكما مصلوباً على الأوراق بين حروف أكلت من النبض و إرتوت بدماء العزلة والمنفى. حلمتْ أن يأتيها من وراء البحار فوق صهوة حصانه، يبرق فيخطفها فوقه ولكنه غاب وطال غيابه،فلربما لا يتسع العمر للقاء وحدهما. أقتربوا، توحدوا، إنصهرت دمعات القلب في أوردة خرساء.
ولماذا أخترعوا بطاقات الإهداء مُقاسة بحجم محدود من السطور وعدد من الكلمات الهزيلة لا تشفي لهفة الإنتظار، وإلى أي مدى يجب ألا تتخطاه نوبة الحنين كي لا تكشف كم هي عارية الأعماق! يا لها من إهانة حين يحدد لنا العالم مساحة لكلماتنا لتنزف فوقها مشاعر مجروحة تبتلع حروف مكتومة أحزانها، لتخرج قصص الحب منمقة أكثر تهذيباً لتملأ الروايات وتذوب كلماتها وسط ضجيج العالم.
تُرى هل ستظل نبض القصائد تملأ الكون بأنفاسهما الحية قبل أن تستقر في هدأتها الأخيرة لترقد بسلام فتأخذ الأوراق على عاتقها المهمة لتبعثهما أحياء كل يوم من جديد مع كل عاشق يسعده حظه أن تقع بين يديه تلك الرسائل ليكتشف تلك النبضات الحية التي تطالبه أن يزرعها في شرايينه لتخفف عنه وقع صقيع الشتاء أم ستسقه حباً مجففاً تم تحنيطه فوق أوراق صفراء وسطور رمادية وحروف ضبابية تبكي أبطالها، إلتقوا ذات صيفٍ فوق سحابة حلم بين سطور الكلمات؟!.
كانت تدرك معنى أن تحب رجلاً له من النساء ما إشتهى فهو الحالم المتقلب الهوى ويعيش عالمه الرومانسي الخاص بعيداً عنها وكم ساورتها الشكوك نتيجة بُعد المسافات و تلك المخاوف التي كانت السبب في إنقطاعها عنه كل مرة. و أنها رهنت حياتها كراهبة لحبه أن تحيا وحيدة حياة الإنتظار وسكينة العزلة والصمت والبُعد بكل قسوته. أسقم قلبها أنهما كانا غرباء وسط زحمة العالم ظلا يبحثان عن حبهما المفقود حتى آخر يوم لهما غادروا بعده العالم، و بعد أن لف قلبيهما ثوب الأوجاع.
وهي كانت تعلم أيضاً أن جبران أحبها لمنتهاه، رغم حيرة الأسئلة التي كانت تاكلهما، أسئلة لم يكن لها دواء يبرئ أسقامهما، كانت تحس بتراجعه واحياناً كثيرة بإنكار حبهما مفضلاً حريته وأوراقه أو إرضاءاً لغيرها من النساء التي عرفهن و ربما ربط مصيرها بمصيرهن في رواياته. فالحب الحقيقي يتطلب مزيد من التضحيات الكبيرة التي لم يكن هو مهيئاً لها. كان يعلم جيداً مرارة نفسها وسوء التفاهم والشك الذي كان يزرعه جواها عن عمدٍ. وكثيراً ما ندمت أنها أقدمت على حب تعلم أنه من مستحيلات الزمان. فكانت تصمت في حيرتها حين لا تجد إجابة إلا أن تحبه بطريقتها في سبيل أن يستمر قلبيهما متعانقين يفيضان بحب يمطر نداوته داخلهما.كانت تشعر بمسئوليتها نحوه وكانت أضعف كثيراً من صمتها الذي تصمم عليه فينكسر كلما شعرت بتوحده في ألمه، و أحزانه التي تكونت داخله كالغيوم السوداء بعد كل عاصفة تعصف بهما.
ربما إعتمدته رجل المستحيلات، رغم أنها كانت مأساتها حين تراه يشعرها أنها مجرد إمرأة ورقية صنعها من سراب أوهامه لزمن إفتراضي مقاس بعدد صفحات كتابٍ،ولكنها كانت تؤمن أن الحب أكبر من أن تفعم به سطور القصائد. فأي إهانة تشعر بها إمرأة حين تشعر أنها لا تساوى أكثر من مجرد إمرأة الطريق ولا تزن إلا مقدار الحبر الذي كتبها به؟. ليس ثمة حباً إفتراضياً.فالحب يكون أو لا يكون. وهي التي عانت معنى حباً منغلقاً بين أضلعِها في زمن الغياب، حباً خارج العقل والمنطق. حباً احست فيه بعجزها و لم يُمهلها الحياة كما تمنت وكما حلم هو. عاشته فقط، فوجدت روحها بين فصوله، يتحدث عن أشياء رسموها سوياً ولايحسها ويفهما سواهما. صقيع الوحدة وآلام الفقد ونحيب صدى الجدران أجبروها أن تمسك القلم و الورقة لتعرفهما بشكل مختلف هذا السر المملوء سحراً وألماً. فالورقة أداتها الوحيدة لتسكب عليها حبر أحزانها.
قالت له يوم وصلها كتابه الأجنحة المتكسرة: «وصلني كتابك فقرأت كل فصولها،ووجدت روحي في فصولها وشعرت أنك تتحدث عن أشياء وشيء لا يفهمه سوى مي وجبران هذا الشهر سيكون لي كتاب حبذا لو شاركتني برسوم لك ربما نلتقي في سطور الكلمات».
وقال لها يوم أنتهى من كتابه المواكب: «إني باعث اليك بأول نسخه بلغت يدي من كتاب ” المواكب ” الذي صدر اليوم , وهو كما تجدينه , حلم لم يزل نصفه ضباباً , والنصف الأخر يكاد يكون جسماً محبوباً , فإن أستحسنت فيه شيئاً تحوّل هو إلى حقيقه حسنة , وأن لم تستحسني فيه شيئاً عاد إلى الضباب بجملته ».
– كانت تبحث عنه كلما أتى الشتاء محمّلاً بأناشيد المطر الحزين وقوساً قزحياً في السماء ينبئها بشيئ باقٍ بينهما. يسافر إليها كلما أشتاق لأن تتلامس روحه لتتغلل فتدفأ في قلبها المرتجف برودة، كلما شعرت بالخوف من ذاك الذي صرحت به فندمت لجرئتها.
فقال لرفيقة حبه: «ياميّ عيدكِ يوم، وأنتِ عيد الزمان.
انظري يا محبوبتي العذبة إلى قدس أقداس الحياة، عندما بلغتُ هذه الكلمة «رفيقة» ارتعش قلبي في صدري، فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين! وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.
تقولين لي أنك تخافين الحب، لماذا تخافين يا صغيرتي. أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين مجئ الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟.
أعلم أن القليل في الحب لايرضيكِ , كما أعلم أن القليل في الحب لايرضيني , أنتِ وأنا لا ولن نرضى بالقليل, نحن نريدالكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال… لاتخافي الحب ياماري، لا تخافي الحب يارفيقة قلبي , علينا أن نستسلم إليه رغم مافيه من الألم والحنين والوحشه , ورغم مافيه من الألتباس والحيرة».
– أجل كان حبه محتوماً عليها،لا تعرف سوى أنها تحبه وأنه كان مصيبتها و أكبر أحزانها، ذاقت معه الحب أعاصير وحرائق موسمية، وسط عالم قاسٍ ينكر ويستنكر عليهما الحب. كانت تدرك كل هذا جيداً لكي يستمر هو ينحت حبهما من شُعلته الزرقاء التي أنهكت خرس الحروف فإستنطقتها ببكاء الأشواق.كعطش الحب لماء الآلهة عِاشت حياتها، وتطورت هذه الأحاسيس ونضج معها هذا الطفل الباكي في الأعماق حتى إعتاد أن ينام بين ملوحة ضلوعها كلما أحس بعطش الحرمان. فلم تعد ميّ تلك الطفلة التي كانت تلهو بالرسم بالكلمات، وترقص فوق سطورها غير آبهة بالعواقب. كان حزنها يكبر وسط السعادات الصغيرة والمتقطعة التي كانت تصلها في رسائله إليها ولكنها إعتادت أن تتشبث حتى بالنذير منه لتكبر فيه، في دمه وتختلط ألوان دهشتها الطفولية بأوردته، ولكن كان هناك شيء يكبر في داخلها بعمقٍ ولا تسعه جراح الحزن التي كانت تنهل من جسدها، كلما إختلت به ترى شريط الحلم يعبر وسادتها متسللاً كلص الليالي الذي يسرق أفراحها الصغيرة.
قالت له ذات يوم: « وسرى الحب في كل نسمة من نسمات جسدي فتعانقت المشاعر وغسل قلبينا المطر فتدفق الحب في الشرايين عاطفة وعاصفة بحال بات يراودني ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به ولكني أعرف أنك محبوبي وإني أخاف الحب أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟ لا أدري. الحمد لله أني أكتبه على ورق لا أتلفظ به لأنك لو كنت حاضرا بالجسد لهربت منك خجلا بعد هذا الكلام ولاختفيت زمنا طويلاً، ، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك».
نعم، ربما لو كانت الأيام جمعتهما وحدهما ما كانت نطقت ما ذرفت به حروفها ولكان إنعقد لسانها وإستسلمت لنوبة من البكاء، فالبكاء يمتص كثيراً من الحيرة المفرغة. وبالبكاء وحده تظل الذاكرة محفور بها كل الأشياء التي عاشوها ورسموا لحظاتها وحلقوا بخيالهما بعيداً عن واقعٍ كان حائلاً بينهما.
– الحب أبقى يا ميّ وأغلى الأوطان، فيه نبض الزمان الذي يحمل قلوب من يموتون شوقاً، قلوب كم مزقتها بحر من عواصف وتحديات كم عصفت به. كانت تعلم علاقاته النسائية أمثال ميشلين وماري هاسكل وغيرهما الكثيرات. وكثيراً ما كان يقع الخصام والفرقة والقطيعة والخوف الكبير الذي كان يشتعل من حين لأخر. ولكنها كانت تُرثي من حالها أيضاً أن الذات العُليا في كليهما منصهرة لأبعد من ذاك الطفل الذي وُلد بينهما ” طفل الرياح” وأن هذه الذات من القوى التي كان تصمد كل مرة لتتغلب فيها على فجائع الذات الأنانية الصغرى التي كانت تحطم كثيرا من أحلامها. إنه الحب الذي أصرّ أن يحيا بمستحيلاته بتلك اللهفة الجائعة وشغف الأنفاس الحائرة، متخطيا تحديات الشراك المنصوبة في طريقه. كان يرسل إليها بين سطور تجلياته أقوى علاماته الخفية التي لم يكن يعلمها سواهما، فكانا يعودا كل مرة ليسافر الحب بهما لرعشة عوالمه الخفية خارج زمان ضاق عليهما. إنه الحب الذي في عناقٍ بين حرف و أرواح حائمة حملته معها إلى مستقرها.
أكان حباً أم سجالات أدبية؟!هل عاشت ميّ الحب حقيقة أم كانت ضحية لمداد حبها وسقطت أجنحتها متكسرة؟! وهل كان جبران يمارس طقوس حبه من نوع كان غريب عليها، أم أن للحب طقوس لا تعرفها، أكان لديه القدرة أن يُبقي وهج شعلة الحب أم كان يستطيع إطفائها كأعقاب سجارته في توقيت بعدما تنتهي حروف مداده ؟ من كان الأقوى داخله حبها أم حروفها؟!
ربما إعتبر جبران حبهما مجرد سجالات أدبية. ولكنها لم تكن تعلم، وهو كذلك لم يشفِ سؤالها ويضمِّد حيرتها،سوى أنها إعتمدته حباً مستحيلاً دام على الأرض عشرون سنة.عموماً يبقى الحب خالداً في الروح أبداً ولا ينتهى حتى وإن إنتهت القصيدة. و رسائلهما التي إمتزجت بدموع قلبيهما.
يولد الحب من رحم الحياة وينمو، فكان يرى كلاهما نصفه الحميمي في مرآة الأخر، بل يرى كيانه الكُلّي في الأخر وما خفي بين طيات أنفاس صدروهما الصامتة، يشعر كل منهما بالأخر يحوم في أجواء سمائه وسكون عالمه حتى دون أن يتراسلا. يشعران في البُعد بعينهما العميقة حين يغمصون أجفان حنينهما عن العالم ليروا ومالم تره أعين الناس حولهما.
أجلّ يا ميّ, يجب أن نبقى برغم الخصام تحت سقف واحد. هو قال.
نعم يا جبران, للحزين وحده يجب أن يقال: «عام سعيد» !
فأنت أيها الغريب، أنت مصيبتي منذ أعوامٍ.. لكني أعرف أنك محبوبي.
أحبك قليلاً، كثيرًا، بحنوٍ، بشغفٍ، بجنونٍ، لا أحبك. هي قالت.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …