نقلها: مدحت موريس
كانوا ثلاثة قيل انهم خرجوا الى الدنيا فى يوم واحد . و حديث الأعمار يبوح بأسراره فى حارتنا عند الحوار بين الأمهات حتى بلغوا السادسة . عند ذاك حجزت البنت لتصبح خفية وراء الجدران و استمر الصديقان فى اللعب و التذكر
أما رزق فيتذكرها كلما احتاجوا الى ثالث فى لعبة ما و أما عبده فحتما منذ تلك السن المبكرة كان يشعر بها حبيبة للقلب على نحو ما . و منذ تلك السن المبكرة أيضا أدرك أن عليه أن ينتظر عشر سنوات قبل أن يحقق أمله المشروع .
و كان عبده من الذين يملكون ، أما رزق فممن لا يملكون . و تزاملا فى الكتاب كما تزاملا فى اللعب . و انقطع رزق عن التعليم بحكم فقره و واصله عبده حتى نال الابتدائية . و منذ ذلك الزمن البعيد و رزق يتشكل فى وجدان عبده مثالا فائقا فى القوة و الجرأه و المهارة فاحترمة و اعجب به و تبعة رغم فارق الغنى و الفقر .
و لما مات والد عبده حل الفتى محل أبيه فى مطحن البن الذي ورثه . و كان الأب قد دربه ، كما أن العمال القدامى أخلصوا له أيما إخلاص ، و لكنه سرعان ما ضم صديقه رزق الى المطحن كمعاون له ، و كان كل ما حصله كل منهما فى التعليم كافيا له فى عمله ، و تجلت ألمعيه رزق فى متابعة العمل من شرائه كـ بن أخضر الى تحميصه و طحنه و تعبئته و توزيعه . و قال لأسرته مفسرا قراره بتعيين رزق أنا لا أجد الطمأنينة الا معه ذلك حق . لم يتخل عن خدمته قط . يدفع عنه أذى الصبيه يسارع الى نجدته كلما احتاج الى نجدة يسعفه بالرأى و المشورة . و لما ضمه الى المحل قال له كن فى العمل ما كنته فى الحارة ، عينى و أذنى و يدى ..
–
و فى وقت قصير استحق أن يلقب بالوكيل . انه الرقيب بين العمال الدائب على رعاية الطاحونه ، و أنشط من قام بتوزيع البن فى الدكاكين و المقاهى . يا له من طاقة لا تخمد . و أصبح عبده لا يدرى كبيرة أو صغيرة من محلة الا عن طريق رزق والخلاصة ان رزق اصبح كل شىء بينماصار عبده كلا شىء . شىء .
و كان ارتياحه لذلك أضعاف ضيقه به لما طبع عليه من كسل و حب الحياة اليسيرة و الميل الى الاستمتاع بالسهر كل ليلة فى المقهى أو الغرزة . و كان العملاء يقصدون رزق لعقد الصفقات و كأنه مالك كل شىء . و لاحظ خال عبده ذلك و هو فى غاية من الاستياء و لكن الشاب قال له
– بكلمة واحده منى يتغير كل شىء ، أريد أن تجرى الأمور على ما تجرى عليه ، و أنا يا خالي أحب المال و لا أحب العمل ، و رزق أمين ، و هو هدية ربنا الى آن لى أن أفكر بالزواج قبل أن و مضت الأمور فى طريقها المرسوم حتى قال عبده لرزق يوما يسرقنا الوقت و لم يبد على رزق أنه فوجىء و سأله هل فاتحت أحدا فى الموضوع ؟ انت أول واحد أفاتحه فيما يهمني …أحسنت ، فالطريق المعتاد الى الزواج هو أردأ الطرق ، فدعنى اتحرى بأسلوبى الخاص يهدينا سواء السبيل والله
هكذا سلمه شئون قلبه ضمن اختصاصاته و لم يكن هو قد رأى ظريفة طيلة السنين الا مرات معدودة و لكنه لم يحب من جنس النساء سواها ، غير أنه قال كالمعترض ” أسرتها طيبه و حسنة السمعة و لا حاجة بنا الى التحريات ، هذا كلام الناس الطيبين و لكننا لن نخسر بالسؤال شيئا، و انتظر عبده و هو يزداد قلقا و توترا ، و يتساءل فى حنق
متى تنتهي تلك التحريات المشئومة . و التقت عيناه بعيني صاحبه اذ هما فى المقهى فقرأ فيهما ما أثار خواطره و سأله ماذا وراءك ؟ ” ليس خيرا ” يا خبر أسود ،ماذا قلت ؟… هى الحقيقة للأسف … لكن ظريفة ملاك فقال بحزن .. إنها ليست ملاك
فغمغم بعد تردد…انا اريد البنت
فقال الآخر بادى الامتعاض انت حر
و انطوى على نفسه يفكر و يفكر . و يتردد بين الإقدام و الإحجام ، و ضاعف من تعاسته أن رزق اعتكف فى بيته لمرض طارىء . و ذات أصيل و هو منفرد بنفسه فى المطحن ترامت الى أذنه زغرودة . و جاءه عامل ليخبره بأن رزق كتب على ظريفة فى حفل خاص و نفر من أهله .
و ثار عبده ثورة جعلته يبدو بين عماله كالمجنون حقيقة لا مجازاً
و زاره قريب لرزق يحمل اليه اعتذره و قوله انه فعل ما فعل لينقذه من شر كبير كان حتما سيقع فيه . و ضاعف الاعتذار من جنونه و أعلن طرده من المطحن و توعده بشر من ذلك .
و لكن الذى حدث غير ذلك . و قال لى شيخ الحاره – و هو راوي قصة عبده و رزق و ظريفة- ان عبده عاد مع الأيام الى رشده . و غرق فى عمله لا يدرى ماذا يفعل فاقتنع بأنه لا غنى عن رزق . و عفا عنه و أعاده الى مركزه السابق .
و الأعجب من ذلك كله أنه فاجأنا ذات يوم بالزواج من أم ظريفة!
عزيزى قارىء الاهرام الجديد
الاسطر السالفة هى قصة الطاحونة للاديب العالمى نجيب محفوظ وقد تعمدت اخفاء اسم الكانب الكبير لاثبت لكم ولنفسى ان حكمنا على الاشياء ليس دوماً عادلاً …فالكاتب المغمور معرض للانتقاد حتى لو اجاد اما الاسم الكبير فيحمى صاحبه مهما كانت القيمة التى يقدمها، لهذا فانا اعلم ان القراءة الاولية للقصة السابقة لن تنال الاعجاب اما بعد الاعلان عن اسم الكاتب فالقراءة الثانية ستختلف وسينظر القارىء للقصة بمنظور مختلف وفى النهاية سيجدها قصة جيدة وسيبرر رأيه الاول فى انتقادها لاسباب اخرى منها انه لم يقرأها بعناية او انه لم ينتبه لكذا او كذا…وللاسف هذه هى الحقيقة فى حكمنا على الاشياء بصفة عامة.
مع تحياتى