الأحد , نوفمبر 3 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

عبيط القرية

مدحت موريس 

كانت أمسية رائعة تلك التي أمضيناها بدار العمدة, حيث تم الصلح بين العائلتين الكبيرتين بالقرية بعد خلافات نشبت بينهما قام علي إثرها بعض شباب العائلة الأخرى بالهجوم والاعتداء علي بعض منازل العائلة التي أنتمي إليها.

قام العمدة وأعضاء المجلس المحلي بعقد مجلس صلح حضره حكماء العائلتين الذين حضروا والبعض منهم يعيشون خارج القرية مثلي حيث أعمل طبيبا بالقاهرة, وقد سارعت بالحضور لقريتي ومسقط رأسي, ولم يكن غريبا أن يستقبلني أفراد عائلتي بمنتهي الترحاب بما لديهم من فخر كبير بشخصي حيث أن أسم الدكتور عزيز رشدي يتردد في القاهرة تماما كما يتردد في قريتنا الصغيرة.

واشد ما سرني هو استقبال أفراد العائلة الأخرى لي وقد رأيتهم تواقون للصلح ونبذ الخلافات وكان هذا بالفعل ما اعلنوه فى المجلس العرفى الذى عقده حكماء القرية واتفق الجميع على نسيان الماضى والتركيز علي المستقبل بعدها بدأت الوليمة حيث عمرت المائدة بكل ما لذ وطاب وتناسيت أمام ذلك كل النصائح التي أوجهها لمرضاي من حيث الاحتياط من الطعام الدسم الملئ بالكولسترول, بعد الوجبة الدسمة تمشيت في أورقة القرية وحواريها يرافقني شاب من شباب عائلتي وقد بدا مهموما ومهزوما, وفي الطريق بدأ يحاورني وتحدثنا عن السلام والاستسلام وكانت آراؤه نابعة من حماس شاب في مقتبل العمر يداه ولسانه يسبقون عقله, وكنت طوال الطريق احفزه لأن يكون البادئ دوما بالسلام مع الآخرين ولا يستجيب لأقل استفزاز-

أما هو- فكان يري أنني متهاون زيادة عن اللازم, والتهاون يجلب الهوان كما يري. أردت أن أغير مجري الحديث بأن أحدثه عن ذكرياتي في القرية عندما كنت في مثل عمره, وكيف كونا فريقا لكرة القدم يتنافس مع فرق القرى المجاورة, ثم أخيرا سألته ” إيه أخبار عبيط القرية؟” ضحك الشاب قائلا أنا لا أعرف شيئا عن عبيط القرية سوي ما قرأته في قصص أدبيات الريف المصرى أجبته بأن القصص دائما تأتي من الواقع والواقع هو الركيزة الأساسية التي يبني عليها المؤلف قصته

ثم يبدأ في التركيز أو المبالغة في جانب معين بما يخدم الهدف من قصته, ولكن علي أي حال فشخصية عبيط القرية أو المجذوب وهو شخصية حقيقيه عشتها أنا شخصيا ورأيتها سواء في قريتنا أو القرى المجاورة, ومهما اختلفت شخصيته إلا أن لها سمات مشتركة وهي… ظهوره فجأة من حيث لا تدري…هذيانه بكلمات سمعها من هنا وهناك وأخيرا اختفائه ثانيا فجأة.

وظن بعض الناس أنه يتنبأ بالمستقبل, أو أنه رجل مبروك. رد الشاب مقاطعا- ويبدوا أن حديثي له كان مملا- عموما القرية تغيرت عن ذي قبل والحضارة غزت القرية وأندثرت شخصية العبيط ولم يعد الفلاح يأكل من صنع يديه وهذا يكفي. ضايقني أسلوبه الحاد في الحديث فأثرت الصمت حتي عدنا لدار العمدة حيث قضيت ليلتي وغادرت عند الفجر عائداً الى القاهرة بعدما اطمئنيت على قريتى واهلى وبعدما عاد السلام يرفرف فى سماء قريتى الحبيبة.

بعد اقل من شهرين حاءتنى مكالمة من العمدة يطلب منى الذهاب الى القرية لامر هام وقد تواترت اخبار متناثرة عن عودة الخلافات بين الاسرتين وعندما وصلت وجدت نفس المشهد ونفس المجلس مع اختلاف أن هناك تصميم أكبر علي تحدي الخلافات وعقاب من لا يلتزم- والأكثر من هذا- أن العمدة باعتباره كبير العائلة الأخرى نهض وصفع شاب من عائلته لأنه تحدث بأسلوب غير مقبول عن عائلتي, وكانت إهانة بالغة لشاب في مثل عمره تأكدت أن الأمور ستهدأ هذه المرة لا سيما-

بعدما رأيت مواقف العمدة وأعضاء المجلس المحلي والسيد عضو البرلمان ….بعد أقل من ثلاثة أشهر أتصل بي أحد أفراد عائلتي يطلب حضوري للقرية حيث أن الأوضاع تفاقمت الى حد خطير, وعند وصولي كان وجه العمدة أول ما رأيت فبادرني بالقول ” جيت في وقتك يا دكتور عزيز” ووجدت المجلس مكتملا وتكررت الجلسة وتكرر الكلام مع اختلاف بعض المفردات ثم أقيمت الوليمة لكنني كنت قد فقدت شهيتي… نهضت لأتمشى في قريتي الحبيبة ورافقني نفس الشاب وشاهدت منازل خربه تم حرقها تخص أفراد عائلتي…. شممت رائحة الحريق وكانت مازالت عالقة بالمنازل, أسر بالكامل أقامت في العراء…”روح المستشفي يا دكتور ح تلاقى 15 واحد من عيلتنا متلقحين هناك, ثلاثة منهم بين الحياة والموت” هكذا قال الشاب أما أنا وقد أدركت حجم المصيبة وحجم الخديعة فلم أجد ما أقوله, وأستمر الشاب يتحدث في حرقة, أهذه هي كرامة العائلة التي تحافظ عليها؟؟

أم تراك جئت لتسألني عن عبيط القرية مرة اخري وتحكي لي حكاياته؟؟. كانت كلماته كالسياط علي ظهري إلتفت نحوه مؤنبا لكنه أستمر في سخريته من كلامي في المرات السابقة أستدرت عائدا تاركا إياه واقفا في مكانه وعلي الرغم من ابتعاد صوته شيئا فشيئا إلا أن كلماته كانت تدق كالطبول في أذني وعقلي, وبينما عيناي تتجولان فى الأرجاء وتشاهد الحرائق والخراب وجدتني أتمتم بكلمات لم أفهمها خراب، دمار، سلام، حريق،… عبيط القرية…… عدت إلي الدار وغسلت وجهي ثم رفعت رأسى و نظرت للمرأة الصغيرة المعلقة فوق الحوض ووجدتني أهذي بكلمات تتحدث عما يجري وما جرى طالعت وجهى فى المرآةأثم انفجرت ضاحكاً بعدما أدركت أن شخصية عبيط القرية لم ولن تندثر…
بقلم مدحت موريس
(voicy2005@yahoo.com)

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

علام تتنازعون

علام تتنازعون.. تجتمعون كل نهار متفقين على تمزيق الجسد الحي وبالكبرياء تقترعون على هدر الدم …