إدارة الاختلافات بحوارات جادة هادئة مملوءة بالمحبة
بقلم : ميخائيل بشرى
قديمًا عندما كانت تظهر بدعة داخل الكنيسة، أو أفكار مختلفة عن أفكارها المستقرة والثابتة، كان يتم عقد مجامع كنسية للاستماع لأصحاب هذه الأفكار ومحاورتهم فيها للتأكد من صحة أو خطأ ما ينادون به، وهكذا سارت الكنيسة في مجمع نيقية والقسطنطينية وأفسس، إلى أن حدث أول انشقاق داخل الكنيسة في مجمع خلقدونية سنة 451 م، ولعل هذا الإنشقاق يرجع وبدرجة كبيرة إلى مشاكل متعلقة بفكرة “الحوار”، فعندما لم يتم الاستماع بالقدر المناسب للبابا ديسقوروس، بابا الإسكندرية الـ 25، ولم تكن هناك رغبة من البعض لتفهم موقفه، تم الحكم عليه ظلمًا، واختلفت الكنائس بين قبول المجمع وقراراته وبين رفضه، ولعل ما يؤكد أن المشكلة كان يمكن لها ألا تصل إلى هذا الحد، أنه تم الإتفاق- خلال حوار لاهوتي جاد في عهد قداسة البابا شنودة الثالث- على صيغة مشتركة للإيمان بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية حول نقطة الخلاف الخاصة بطبيعة السيد المسيح، التي كانت سبب الإنشقاق الخطير في مجمع خلقدونية.
وفي كل عصر يوجد “المضادون” و”المتذمرون” و”المختلفون” مع الكنيسة ورجالها، البعض بسبب مواقف أو مشكلات خاصة، والبعض لسوء فهم أمور معينة، والبعض لأخطاء قد تكون غير مقصودة من بعض رجال الدين، باعتبارهم بشر غير معصومين من الأخطاء، ويُعد الحوار من أهم الطرق في التعامل مع هؤلاء، من أجل تفهم دوافعهم أو لتصحيح ما قد يكون قد وصل إليهم من معلومات غير دقيقة، تحاشيًا لأي عثرات قد تنتج عن ربط البشر الدائم بين أفعال الأشخاص ومدى صحة ما يعتنقونه من معتقدات، الأمر الذي قد ينعكس على صورة الكنيسة بشكل عام.
والكنيسة من جانبها يجب أن تستمر في النظر إلى هؤلاء المختلفين، متى وجدت أن آرائهم أو أفعالهم مضادة لتعاليم الكتاب المقدس، كمرضى يحتاجون إلى علاج، فالكنيسة في الأصل هي “مستشفى” كما وصفها القديس يوحنا ذهبي الفم، وليست محكمة تسعى لإصدار العقوبات ضد المخطئين أو مختلفي الرأي. فالسيد المسيح له كل المجد قال إن الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب بل المرضى، وإنه لم يأت ليدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة.. وإن كانت الكنيسة مستشفى، كما سبق وذكرنا، فمن واجبها الأساسي أن تقبل الخطاة الذين يسعون إلى العلاج فيها، أو تحاول إرجاعهم إليها، وإلا أصبحت خدمتها محلاً للتساؤل، وأصبح رفضها مدعاة للاستياء، كذلك الاستياء الذي يمكن أن يتسبب فيه رفض إحدى المستشفيات قبول أحد الأفراد فيها بحجة أنه مريض؟!!
ومن ناحية أخرى، يجد أي قارئ بسيط في قوانين الكنيسة أن هذه القوانين لا تخلو بالجملة من بعض العقوبات، كالحرمان من التناول فترات معينة معلومة أو غيرها من العقوبات الكنسية، إلا أن هذه العقوبات لم توضع أبدًا من أجل الانتقام الشخصي، أو للقضاء على أي فكر مختلف، أو أي انتقاد أو تذمر من بعض نواحي القصور التي تتواجد لأسباب مختلفة في أي خدمة، بل كانت وسائل للعلاج من بعض الخطايا الكبرى، من خلال إشعار المخطئ بعظم خطيته لدفعه إلى التوبة، ولذلك أوصت الدسقولية الأسقف قائلة: “لا تكن مسرعًا إلى القطع ولا جسورًا، ولا تستخدم المنشار الحاد الأسنان”.
بعض المتذمرين تواجدوا أيضًا في الكنيسة الأولى، ولكن الرسل لم يعنفوهم أو يعاقبوهم، بل بحثوا شكواهم بكل محبة، وعندما وجدوا أن هؤلاء المتذمرين على حق لم يترددوا في إتخاذ إجراءات تصحيحية قبلها الجميع بكل فرح، كما ينص سفر أعمال الرسل “وفي تلك الأيام إذ تكاثر التلاميذ حدث تذمر من اليونانيين على العبرانيين أن أراملهم كن يُغفل عنهن في الخدمة اليومية، فدعا الاثنا عشر جمهور التلاميذ وقالوا لا يرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد، فانتخبوا أيها الإخوة سبعة رجال منكم مشهودًا لهم ومملوين من الروح القدس وحكمة فنقيمهم على هذه الحاجة، وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة، فحسن هذا القول أمام كل الجمهور” (أع 6: 1- 5).
كما أن العقوبات الكنيسة لم تكن توقّع على أي خاطئ إلا بعد ثبوت الخطية ضده، والاستماع إليه بصفة شخصية كلما أمكن، والتأكد من أن العقوبة أكثر منفعة روحية له، لكون الكنيسة مسؤولة عن هؤلاء الخطاة أيضًا، ولذلك نرى أن الدسقولية أوصت الأسقف قائلة: “لا تقبل في أحد شهادة شاهد واحد، بل ثلاثة لا أقل، ويكون هؤلاء أيضًا قد شُهد لهم أن أفعالهم جيدة منذ بدايتهم، وليس بينهم وبين المشهود عليه عداوة، لأنه يوجد كثيرون يفرحون بالشرور ولا يحفظون ألسنتهم، وهم ذوو ثلاثة ألسنة، مبغضون للناس، معدون لتفرقة رعية المسيح، فتفرق رعيتك بلا وقار، وتجعلهم طعامًا للذئاب الذين هم الشياطين والرجال الأشرار” (الدسقولية- الباب الرابع).
وإن كانت القاعدة الشرعية المستقرة لتحقيق العدالة في أمور العالم تقضي بأن “المتهم برئ حتى تثبت إدانته”، فكم بالأولى تكون ضوابط العدالة في أمور كنيسة الله الحي، التي وصفها القديس بولس الرسول بأنها “عمود الحق وقاعدته”؟.. وإلى من يلجأ المظلومون في العالم إن كانت الكنيسة، التي هي عزاء المظلومين، توقع الظلم عليهم أو على غيرهم من البشر.
ولذلك شددت الدسقولية على ضرورة الرحمة والتمهل في الحكم على الخطاة، والعمل على شفاء هؤلاء الخطاة بكل السبل كمرضى، فقالت: “واشف الذين ضلوا في الخطية كطبيب حريص وشريك متألم. ليس الأصحاء محتاجين إلى طبيب بل المرضى. قال إنما جاء ابن الإنسان يطلب ويخلص ما قد هلك. أنت طبيب أيضًا لكنيسة الرب، ادخل بعقاقير تليق بكل واحد، تشفيهم وتستحييهم بكل مثال وتثبتهم في الكنيسة”.
وقالت الدسقولية أيضًا: “علموا الذي يمشي بغير علم، وردوهم بإعلان، من كان غير عالم علموه، والعالم ثبتوه، وخاطبوهم دفعات عديدة بما يشفيهم”. وأيضًا: ليس حقًا أن تستعد لطرد من يخطئ، أو ترفض قبول من يرجع إليك، أو تكون سهلًا للطرد، أو تكون بلا رحمة في شفاء المريض”. كما تحدث القديس غريغوريوس اللاهوتي عن ضرورة التمهل على الخطاه بقوله: “ليتنا لا نضرب (بالفأس) سريعًا بل نُغلب باللطف، لئلاَّ نقطع شجرة التين وهي قادرة أن تحمل ثمرًا إن تعهدها كرّام ماهر لإصلاح حالها”.
ولذا، يجب أن يكون فكر الخادم خلال أي حوار مع غيره المختلف هو كيف يجذب هذا الشخص إلى التوبة، إن كانت لديه أفكار أو سلوكيات خاطئة، لا كيف ينتصر عليه ويحطمه، كما يجب أن يكون فكر المخدوم خلال أي حوار مع أي رتبة كهنوتية هو كيف يقدم ما يراه مناسبًا من أفكار بطريقة لائقة دون تجريح، إكرامًا لهم باعتبارهم خدام الله، وكوصية كتابية، حيث يقول القديس بولس الرسول “ثم نسألكم أيها الإخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم ويدبرونكم في الرب وينذرونكم، وأن تعتبروهم كثيرًا جدًا في المحبة من أجل عملهم” (1 تس 5: 12، 13)، ويقول أيضًا “أطيعوا مرشديكم واخضعوا، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابًا” (عب13: 17).
والقبول بالحوار يجب أن يتبعه استعداد داخلي لتغيير وجهة النظر لدى كل طرف متحاور، متى وجد أنه على خطأ، ولا ضير من اعتراف المخطئ بخطئه والاعتذار عنه أمام الطرف الآخر، مهما كان مركز المخطئ، حيث أن الاعتذار ينطوي على تواضع قلبي، كما أنه يحد كثيرًا من رغبة الطرف الآخر في أن يتخذ موقفًا دفاعيًا، مما يساهم في حل أية نزاعات.
وقد يقول قائل، أن هذه الأقوال تصح متى كان الطرف الآخر متفاهمًا ومتقبلًا للحوار، ولكن ماذا يجب علينا أن نفعل إن لم يكن الأمر كذلك؟ حسنًا.. يمكن في كثير من الأحوال أن تتبع ما يُسمى باستراتيجية “التجنب” أو “التجاهل”، ولا يُقصد بالتجاهل هنا أن يتخذ الإنسان موقفًا سلبيًا على طول الخط، أو لا يقدم ما يراه صحيحًا من أفكار أو آراء، ولكن أن يعرف بالضبط متى وكيف يمكن أن يتخذ موقفًا مفيدًا ومؤثرًا غير ملوم، ومتى يكون تدخله ملومًا، حتى ولو كانت نتائج ما يريد أن يفعله نابعه من ضمير صحيح. وعلى سبيل المثال لم تعط المسيحية تصريحًا لرجال الدين بأن يغيروا من سلوكيات الناس بالقوة، ولم يسمح السيد المسيح لنفسه أيضًا أن يفعل ذلك، ولكن واجبهم فقط هو النصح والإرشاد في ضوء تعاليم الكتاب المقدس، هكذا الأمر بالنسبة للشعب وتعامله مع الرتب الكهنوتية المختلفة، أو تعامل كل رتبة كهنوتية مع الرتب التي تعلوها، فالشعب يجب أن يخضع للكاهن فيما يتعلق بالأمور التنظيمية الخاصة بالكنيسة، حتى لو قدم رأيًا لم يتم قبوله، طالما أن هذه الأمور في حدود سلطات الكاهن، كما أن الكاهن يجب أن يخضع للأسقف أو المطران فيما يتعلق بالأمور التنظيمية الخاصة بالكنيسة، حتى ولو قدم رأيًا لم يتم قبوله، وإلا انتشرت الفوضى في عموم الكنائس، غير أن كل هذه الأمور يجب أن تتم بكل محبة ولطف واحتمال، وهي صفات يجب أن تكون لصيقة بكل مسيحي، كما يجب أن يتحمل كل شخص مسؤولية أفعاله وأقواله وقراراته أمام الله أولًا، وأمام الناس.
الوسومميخائيل بشرى
شاهد أيضاً
“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “
بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …
تعليق واحد
تعقيبات: الكنيسة تشكوى للإدارية العليا حول ضياع قضية ملف كنيسة الروم برشيد – جريدة الأهرام الجديد الكندية