بقلم : نانا جاورجيوس
وجد نفسه على قائمة الإغتيالات، مُستباح دمه من حُراس النوايا للعشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي. فأصر على أن يكتب واسيني الأعرج روايته «سيدة المقام: مرثية الجمعة الحزينة» إصدار1995 و التي إنتصرت للحياة وسط دماء الحرب الأهلية و ترنُّح سكرات الموت وتفكك الجزائر وممارسات الفاشية الدينية وصعود تياراتها للحياة النيابية وموت بطئ للحياة وتكميمهم لحرية التعبير وتدميرهم للتراث الإنساني و أوجه الثقافة والفن والموسيقى والأدب والمتاحف ودور العرض وإنهيار تام لأجهزة الدولة وتفكك مناضلي الثورة لمجموعات مرتزقة من الإنتهازيين.
وتعتبر هذه الرواية صورة مصغرة لما حدث ويحدث من تفاصيل صغيرة أثناء ثورات الربيع الإسلامية في الدول العربية، فتنبأ فيها الكاتب بآثار التداعيات لهذه الثورات وصعود التيارات الإسلامية لتطفو على سطح الحياة السياسية. الذين قال عنهم: « حراس النوايا في المدينة ينتشرون مثل رياح الجنوب الساخنة. تعرفين أنهم لا يأتون إلا عندما تخسر المدينة سحرها وتعود بخطى حثيثة إلى ريفها الشفوي، الذي لا يقبل إلا بطقوسه. مدينة ساحلية ، كانت تعشق الألوان و وقوقات النوارس البيضاء. صحَّرها بنو كبلون ويجهز عليها الآن حراس النوايا. القبعة الأفغانية ونعالة بومنتل والقشابية والمعطف الأمريكي من فوق ، ونفي العصر والحضارة من ذاكرة الناس . نتشممهم من بعيد ، فنغير المعابر والطرقات. رائحة عطورهم القاسية والعنيفة تسبقهم . عطر يشبه في قوته العطر الذي يسكب على جثث الأموات .»
و كقارئة أعلم الآن لماذا صادرت مسئولي الرقابة المصرية هذه الرواية تحديداً عام 2000 وبعد خمسة سنوات من صدورها وبدون إبداء أسباب منطقية للمنع، إثر الضجة التي أثارتها رواية «وليمة لأعشاب البحر» للسوري حيدر حيدر، رغم أنها – سيدة المقام- كانت تُدرَّس كمنهج دراسي بعدد من الجامعات العربية والأجنبية، وكأن من صادروها بمصر كانوا يعلمون ما يدور في الظلام ، ممن لهم المصلحة في إخفاء تفاصيل ما يحدث آنذاك بالجزائر و ليتمكنوا من الوصول لما أرادوا في غفلة من الوعي الجمعي للشعب، وقد كان لهم ما أرادوا بعد الثورة المصرية ولكن لفظهم المجتمع المصري بكافة طوائفه ومستوياته الفكرية،و بعد أن ذاقوا إجرامهم وترهيبهم الداعشي المقدس وبعد سنة واحدة من حكمهم الديني .
فوسط هذا الدمار والموت الذي ملأت رائحته شوارع الجزائر جائت كلمات الكاتب صرخة لعدم الإستسلام للموت ونداء لضمير العالم لبعث نور الحياة من جديد. فكتب للحياة و للموسيقى و لمريم سيدة المقام: “الموسيقى وحدها ، والكلمات لاتمُوت يا مرْيم.. إليكِ مريم يازهرة الأوركيدا ومرثية الغريب، ياسيدة المقام والمستحيلات كلها” كلمات لواسيني الصاحب القامة الإبداعية في الأدب والقدرة بالغة التميز التي تتغلغل بالوجدان لتحركه ببراعة في السرد المجازي الخارج من رحم واقع متألم ممتزج بالخيال، واقع مجروح من حرب أهلية ودمار ودماء من إرهاب العشرية السوداء، الذين قال فيهم: « كتبت سيدة المقام حتى قبل أن ينتقلوا إلى القتل، كنت أراهم قادمين بأدواتهم الجهنمية، ولم أكن قادرًا على الصمت واضعًا حياتي وحياة أبنائي في خطر. عندما وضعوني على قائمة المقتولين حرروني.»
لواقع الغربة والتشرد وحنين للطفولة ، ليُتم مبكرٍ للأب و فقدان لوطن قال عنه يوماً: « أحزن عندما يحزن وطني لكني أكره السياسة رغم أنها تأكل معنا في الإناء نفسه.». وفقدانه للأم التي قال يوماً عنها: « إشتهيت أن أشبع من وجه أمي. أن أقول لها ببساطة: أحبك يا يمّا. احبك يا أمي فوق كل حب. أشتهي أن أنام في حجرك كما في طفولتي الأولى وأسمعك بلا حدود حتى أنام نهائيا مثلما كنت أفعل صغيرا. »..«عــذراً يا أمي..فقد تركتك تموتين ولم أعرف كيف أحبـك..تركتك تموتين ولم أعــرف كيف أحبك.! »
– وللمرأة سريعة العطب يكتب لها من وسط حروب الظلم القاسية و الدمار الذي لا يخلف ورائه إلا أطلال الأماكن:
« سرقوا حقّي في المطر والندى»
حبيبي لك هذا الليل ولي عزلتي. لك القلب ولي جرحي. لك النشيد ولي صوت الظلمة. اسمع النار التي تحترق في قلبي وفي بعض زوايا البيت. تقول لي مثل طفل يخاف على أمه: إنها الحرب يا أمي، ربما كانت قذيفة بلا وجهة. ألم تدرك يا قلبي بعد أن الحروب القاتلة ليست تلك التي نراها وتحرق أسرارنا التي صنعناها منذ طفولتنا في بلد كنا نظنه فوق الحروب وأكبر من الهزائم. ليست الحروب التي تهرب بالاوطان والتراب والفرح، ولا تلك التي تلون آشواقنا بالسواد وتمزق أحلامنا الصغيرة. أعرف أنك تخاف علي من شظية عمياء تخترق الحائط وتسكن أجمل ما تشتهيه في، صدري. أعرف أكثر أنك أنت أيضا ابن حرب سرقت منك نبضا ومنحته للموت لتسكن فيك فقدانا يتجدد في كل ثانية. تدرك اليوم ما قالته لك أمك: ليس اليتيم من يفقد أباه ولكن من يرى حلمه يحترق كورقة شجرة مهملة.
لا تحزن يا عمري هناك حزن آخر أكثر يؤسا، وحرب لا اسم لها، لكنها تحرق الجلد بأوشام لا تموت. ما رأيك عندما يرى فيك أقرب الناس لقلبك أنك فتنة؟ وأنك يجب أن تظل سجين عجز صنعوه لهم ويصنعونه لنا؟ أو من عصاه الممتدة كسيف الموت، أكثر ثمنا من ابنته أو زوجته. ما رأيك عندما يأتيك من يحميك ويطوح بك ما أعالي الروح ويسكنك جحيما وحده الفخور به. ألم تقل إن الأعياد للفرح فقط ويجب أن ننسى الأحزان، ها أنذي أدق على بابك مثل اليتيمة فقط لأقول لك إنهم يقتلون عيدي في كل ثانية لأن الورقة التي اشتروها غاليا تبيح لهم جسدي وعذريتي.
لا جسد لي ولا قلب لي. يملكون حتى أنفاسي. لا تحدثني عن القديفة التي تصنع قدر من تتخطى راسه وتسرق قدر من تصيبه. أليست الأعياذ للفرح؟ لا فرح ينتابني الآن. لهذا كلما غبت عني حتى وأنت مريض في فراش الخوف، أشقى إذ لا يسعفني قلبي حتى لأعبر لك عن خوفي عليك. أقول في أعماقي الجريحة هي ذي اللحظة التي أخافها فيك قد دنت منك ومني. نم الآن ودع الحروب تشتعل كما تريد، يوم لا تجد ما تأكله ستتوقف.
امنحني ثانية واحدة فقط لأكون معك ولك للمرة الأخيرة. علق على شجرة الحظ تميمتنا الأخيرة وأكتب: كانت تحبني لكنهم سرقوا حقها في المطر والندى. أذلوا قبلتها لأنها لم تذهب إلا لرجل وضعها في صدره بلا قيد مسبق ولا شرط. لا أطلب منك حبيبي الشيء الكثير، قل لي فقط أحبك وامض حيث أمانك، ودعني أنام فقط لأربي حلما يجعلني امرأة عاشقة تعرف بحواسها المقتولة الطريق الحارق نحوك.
وإلى قراءة واسينية جديدة لإمرأةٍ سريعة العطب.