الثلاثاء , ديسمبر 24 2024

" مـــريم وأحـــمد " .. وحُــلم البالــــطو الأبيـــض .

15
بقـلم / هــاني شـــهــدي
“مــريم ” الطالبة الأكثر شهرة أعلامياً في نتيجة امتحانات الثانوية العامة ٢٠١٥ ، وذلك بعد حصولها علي “صـفر” في جميع المواد الدراسية التي اجتازت الأمتحان فيها ، أعتقد أنها أكثر شهرة إعلامياً من الطلاب العشرة الأوائل علي مستوي الجمهورية، وتستحق أن تدخل موسعة ” جينيس ” العالمية لتكون شاهد عيان علي نظام تعليم فاشل في دولة التعليم فيها هو الخيط الرفيع الذي يلملم جراحها السياسية والاقتصادية ويشفيها من جهلها المُــبين.
وبغض النظر عن كون ” أصفار” مريم مؤامرة صهيونية أمريكية لأسقاط الوطن كالعادة، أو كما تطــوّق عقول الكثير من الأقباط نظرية المؤامرة الدينية والاضطهاد بسبب ما يواجهه الأقباط بالفعل من مضايقات في حياتهم اليومية أو حتي لم يواجهوه .
الأن ..لن نناقش أصفار مـريم لكن نناقش فيما بعد الأصفار التي يمكن من خلالها أن نتوقف علي رؤية واتجاهات جيل باكمله للمستقبل.
في استـضافة الأعلامية ” لبـني عـسل ” علي قناة الحياة للطالبة مريم واخيها دكتور مينا ، التقطت من بين حـديثها ودمـوعها جملة مـهمة للغــاية ” مـن وانا في أولي ابـتدائي كنت عايزة أدخـل طــب” ، “مش غريبة دي شوية” ، فما هي معلومات أي طفل ذو ست سنوات عن أي مهنـة وأبعادها حتى يتشبث بها وتصبح حلم حياته.
لماذا الطفل المصري بعد أن يولد وبعد استخراج أهله له شهادة ميلاده ، وحصوله علي جرعات التطعيمات اللازمة ، الخطوة الثالثة يبدأ في تجهيز نفسه ليصبح “دكتور” …
الطالب المصري كل الظروف تضطرّه لأن يصبح “دكتور” ، فهو دكتور بالــوراثة لأن بابا وماما دكــاترة وكـل العيلة دكاترة وهو مش أقل من أي حد في العيلة ، وعـيب أوي ميدخلش طب زي اخواته ، وبرضو علـشان يورث العيادة أو الصيدلية ، وحرف “الـــدال” قبل إسمه له وزن ومــفعول الســحر عند التقدم لخـطبة أي فتاة ، يمكن أثــقل من وزنه هو شخصياً كأنسان، هو مضطر يكون دكتور لأن المنظومة الاجتماعية للدولة فخّــمت وعظّــمت من مكـانة الـدكتور وتري أن باقي المهن خــارج نطاق الخدمة والتقدير، الدولة اجهزتها وشعبها لا تقــدّر المدرس الذي علّـم هذا الطبيب في الأصل، لا تري المحاسب الذي يُـدير بنوك وشركات، لا تري رجل الأعمال الذي يُـقيم المشاريع ولا الفني ولا السباك ولا النجار ولا الزبال ، دولتنا لا تزرع الأحـــلام ألا في الحــقل الطــبي .
التــحق بالطــب..هو مُضطر لأن يقضي أجمل سنوات عمرة حبيـس المراجع العلمية والمرضي والمستشفي تم أسرته فيما بعد ليجد أرجله تطرق باب الستين من عمره بعنف ويفاجأ بأن هناك حياة كاملة نــسيَ أن يعيشها، حياته يحـياها ولا تحــيا فيه، يفاجأ بأن معلومات السبّاك والنجّار والحدّاد الحـياتية أكـثر ثراءً منه لأنهم تلامسوا أكثر مع الحياة ومع البشر.
طبيعي أن الأسرة المصرية تستنزف معظم دخلها لاهثة وراء الدروس الخصوصية والمراكز التعليمية لأننا جميعاً نُقــدس الطب بعد الأسلام والمسيحية، وتظل مجتمعاتنا العنصرية تحقن الطبيب “عفواً الدكتور” بحقن الغرور والكبرياء طويلة المفعـول علي خلق الله فيستريح إلي تصديق نفسه، وبأن تميّزه ليس علمياً فقــط ، انما هو كائن ذو صفات متميزة في كل شـيء، فيصبح من طبيب يُعــالج إلي مريض نفــسي يحتاج إلي علاج وهو لا يدري.
بــعد التخــرّج… تكون أولي صدمات هذا الدكتور مع نفسه ومع الدولة في المُرتب الحكومي الذي لا يتناسب إطلاقاً من سنوات تعبه واجتهاده، ثاني الصـدمات يكتشف أن الطب في الوحدات الريفية وسط الفلاحين والبسطاء غير الطب في الكتب والمعامل والكليات ولمستشفيات الجامعية ، أنف سيادته لم تكن مستعدة لهذا الأنتقال المفاجي من استنشاق “برفان” زميلاته الطبيبات في “السيكشن” لاستنشاق زكام الفلاحات مريضاته .. ربنا كرمه وأنقذه من هذا العبث وسافر بعثة علمية ، اسمع بقي النكـــسة ..يكتشف أن الأجانب لا يعترفون بكل هذا التاريخ الحافل لسيادته ، وعليه أنا يبدأ امتحانات المعادلة من أول المشوار.وبعد أن يعبر مرحلة التــذمّر والتمّرد علي هؤلاء الذين لا يقــدّرون كفائته يقتنع أن “عنـدهم حـق”، ما درسهُ في مصر لم يكن طبّـاً يؤهله أن يلمّس مريض أوربي أو أمريكي أو حتي من خارج مصر.
طالب الثانوية العامة القبــطي اكثر اصراراً أن يصبح “دكتور” من غيره، والأسرة القبطية تتمسك بهذا الحلم بقــوّة أكثر لأن الطالب القبـطي ليس لديه رفاهية الأختيار وتنـوعه بأن يصبـح ” ظابـط ” شـرطة أو جيـش أو بحـرية أو طـيران ، أو مـذيع تلـيفزيوني ، أو قاضـي أو وكـيل نيابة أو محامي مشهور، أو فنـان أو مـوسيقي أو لاعـب كرة ، لـذلك لا بديل عن الأجتهاد ، فهو طـوق النـجاة الوحـيد من هـذا المـوروث العـفن.
أحـمد عبد المنـعم، من اوائل الثانوية العامة شعبة مكفوفين بمجموع ٩٩.٥% ، اعتذرت جريدة الجمهورية بالتعاون مع الوزارة عن اصطحابه من بين الرحلة السنوية للعشرة الأوائل إلي أوربا بحجّة أن حالته الصحية لا تسمح من تسلّق جبال في برنامج الرحلات ، ألا يمكن حذف هذه الفقرة من برنامجه هو شخصياً، ألا يمكن وجود مرافق له في دولة الجهاز الأعلامي لها يصرف ملايين الجنيهات علي إعلانات السمنة والشيبسي والملابس الداخلية ، أليــس الفتات الساقط من مغامرات السفهاء في برامج القفز من الطائرات رمضان ٢٠١٥ يكفي لأن يسافر أحمد بطائرة خاصة ومن معه من متفوقين ٢٠١٥.
أحمد أعطي كل ما يملك للدولة ( وكذلك مريم وفي انتظار رجوع حقها الكامل اليها ) لكن للأسف بخــلت الدولة عليهم ببعض ما تملك.
أتمــني في أقـرب وقت أن تتصالح الدولة ونُظم بلدنا المتكهنة نفسياً قبل رسمياً مع مـريم واحمد ، ولابد أن تدرك الدولة أنها مخترقة ذهنياً قبل أن تكون مخترقة سياسياً.وقبل أن تصبح الأصفار ليست صدفة انما أسلوب حياة.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …