بقلم : ميخائيل بشرى
عندما أراد الآباء الرسل إقامة عدد من الشمامسة للخدمة، تركوا الحرية للشعب في اختيارهم، مع قيامهم بوضع عدد من المبادئ التي تحكم هذا الاختيار، فقالوا لهم “انتخبوا أيها الإخوة سبعة رجال منكم مشهودًا لهم ومملوءين من الروح القدس وحكمة فنقيمهم على هذه الحاجة” (أع 6)، وهو ما يعني أن إقامة الرتب الكهنوتية هو من سلطان الرسل وحدهم والأساقفة من بعدهم، وإن كان من حق الشعب أن يختار الكهنة الذين سيخدمونهم، ولكن يتم ذلك أيضًا بالشروط التي وضعها الرسل وهي أن يكونوا “مملوءين من الروح القدس وحكمة”، وإلا أصبح اختيار الشعب المضاد لهذه المبادئ باطلًا وغير ملزم.
إذن “من حق الشعب أن يختار راعيه”، وهو مبدأ هام وجوهري من أجل سلامة الخدمة، وعدم وجود أية انقسامات في صفوف الشعب، وحتى يتم تطبيق هذا المبدأ بشكل صحيح لابد من معرفة من هو الشعب وكيف يمكن الحصول على رأيه بكل دقة. إن كلمة الشعب هنا يجب أن تعني على الأقل القبول العام، فيجب ألا تكون هناك أية اعتراضات وجيهة على المرشح للكهنوت ولو من شخص واحد، فالعدد في حد ذاته ليس دليلًا قاطعًا على أهلية المرشح، ولكن من الهام الاستماع إلى كافة الآراء والاعتراضات إن وجدت، ولهذا اشترطت لائحة الكهنوت الجديدة، التي تم إقرارها في عهد قداسة البابا تواضروس الثاني، وجود فترة زمنية قبل إقامة المرشح للكهنوت من أجل تلقي أي شكاوى أو اعتراضات ضد المرشح وفحصها فحصًا دقيقًا لمعرفة مدى صدقها أو كذبها قبل السيامة.
وتتشابه مشاكل معرفة رأي الشعب بمشاكل دقة استطلاعات الرأي العامة في كثير من الأمور، حيث تكون نتائج استطلاعات الرأي في بعض الأحيان خاطئة، بسبب أخطاء تتعلق بوجود أسئلة متحيزة تدفع الشخص إلى إجابة بعينها، أو أشخاص متحيزين مسؤولين عن استطلاعات الرأي هذه، أو غيرها من الأمور، الأمر الذي يستدعي ضرورة التدقيق في اختيار لجنة محايدة ومشهود لها من الجميع بالنزاهة لتولي مسؤوليات التذكيات وجمع التوقيعات.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم في ذلك “إن مثل هذه الأمور تقتضي التحري الكامل، ومن يرّشح أحدًا للكهنوت يجب ألا يقنع بالرأي العام، ولكن يجب عليه فوق كل شئ وقبل كل شئ أن يختبر أخلاق الرجل، فعندما قال الرسول بولس “يجب أيضًا أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج، لم يغفل أهمية الفحص الدقيق.. ولكن بعد حديث طويل ذكر هذه الشهادة مبرهنًا أن الإنسان لا يقنع بها بمفردها في مثل هذا الاختيار، بل تؤخذ في الاعتبار مع غيرها، لأن الرأي العام غالبًا لا يعبر عن الحقيقة، ولكن إذا سبقه الفحص الدقيق لا يأتي بضرر”. (الكهنوت المسيحي للقديس يوحنا ذهبي الفم- الكتاب الثاني).
ونحن نرى أن عدم الصلاحية للكهنوت أو لرتبة معينة فيه ليس عيبًا يسئ إلى أي إنسان، وإلا أصبح من لا يقع عليهم الاختيار الإلهي لإقامتهم بطاركة محل شبهات، وهو أمر لا يمكن القبول به، فالكاهن يجب أن يتحلى بصفات خاصة قد يكون من غير الضروري للإنسان العادي الالتزام بها، حتى أن القديس يوحنا ذهبي الفم نفسه كان يرى أنه لا يصلح للكهنوت، وكان يتهرب منه حتى تمت سيامته بحيلة، فيقول: “لأنني لو كنت مؤهلًا لأداء هذه الخدمة كما يريدها المسيح ثم تهربت لكان كلامي موضع شك، ولكن طالما أن ضعفي يجعلني غير نافع لهذه الخدمة فلماذا يكون كلامي محلًا للتساؤل؟ لأني أخشى أنني إذا تسلمت رعية المسيح وهي في تمام النمو والشبع ثم لعدم كفائتي أهلكتها فإني أجلب على نفسي غضب الله الذي أحب القطيع وأسلم نفسه لخلاصه وفدائه”.
ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أنه يقتدي في ذلك بالقديس بولس الرسول الذي كان يتخوف من هذه الخدمة، فيقول: “لم يحب أحد المسيح كما أحبه بولس، ولا حُسب أحد مستحقًا لنعمة أكثر منه.. ورغم هذه الامتيازات لا يزال يتخوف ويرتعب أمام هذه المسؤولية”، مشيرًا في ذلك إلى قول القديس بولس لأهل كورنثوس “كنت عندكم في خوف ورعدة كثيرة”. ويستطرد قائلًا: “فإذا كان هذا الرجل الذي عمل بأكثر وصايا الله ولم يطلب أبدًا نفعه الشخصي بل نفع الذين يرعاهم كان دائمًا هكذا مملوء بالخوف عندما تأمل جسامة المسؤولية فكيف يكون حالنا نحن الذين نسعى بشتى الطرق لنفع أنفسنا! الذين لم نفشل في أن نسلك بأكثر من وصايا المسيح فحسب بل غالبًا ما نتعدى الكثير منها”.
ويشير القديس يوحنا ذهبي الفم إلى عدد من الشرور التي يمكن أن يقع فيها رجال الكهنوت بغير قصد، أو بسبب ضعفهم كبشر، مثل “المجد الباطل، والحسد، والخصام، واليأس، والإدانة، والكذب، والغضب دون وجه حق، وحب المديح، والفتاوى الغاشة لإرضاء النزوات، واحتقار الفقراء، وتملق الأغنياء، والبعد عن صراحة الرأي، ومجافاة الحق، والإتضاع المصطنع، والامتناع عن التبكيت والتوبيخ، أو بالحري استعمالهما بشدة مع الفقراء في حين السكوت الكلي عن ذوي السلطان”، ويتساءل “هل الكهنوت مسؤول عن هذه الشرور؟”، ويجيب عن ذلك بقوله: “إن هذا القول جنون، فالرجل الحكيم لا يتهم السيف بالقتل، ولا الخمر بالسكر، ولا القوة بالاغتصاب، ولا الشجاعة بالتهور، ولكن يلوم الذين يستخدمون مواهب الله استخدامًا سيئًا فيجلبون على أنفسهم عقاب الله”. ويضيف: “إن الكهنوت بكل تأكيد سوف يديننا إذا لم نحسن استخدامه، فليس الكهنوت سببًا في تلك الشرور، ولكننا نحن الذين ندنسه ونحقّر من شأنه حين نعطيه لمن لا يستحقونه، أو للذين يقبلونه سريعًا دون أن يفحصوا ذواتهم ويدركوا جسامه هذه الرتبة”.
الوسومميخائيل بشرى
شاهد أيضاً
ايهاب صبرى يكتب : الطبخة استوت وريحتها فاحت
منذ اندلاع ثورة يناير وبدأ الشعب المصري فى فقدان الهوية المصرية وشيئا فشيئأ طبخ علي …