الإثنين , ديسمبر 23 2024

كـل سـنة وانت طـيب يا حــج "چــيمي "

هانى

بقلم: هاني شهدي
غــداً عيد الفطر لدى الاخوة المسلمين فهل مقـبول اذا قابلت احدهم غدا اقوله “كل سنة وانت طيب” من قلبى او على الاقل بلسانى؟! هذا سؤال يطرح نفسه علينا كمسيحيين فى هذا الوقت الصعب حيث تصدر قبل كل عيد للمسيحيين كثير من الفتاوي التي تحرّم تهنئتهم ، وآخرها تهمة حيازة ثلاث شبان بالأسكندرية لكيس بلح واستخدام نوي البلح في التبشير بالمسيحية ، “بلحة” تهدد أمن مصر القومي؟!
الحج “جمال” الحلاق أو “جيمي” كما ينادونه في ساعات الصفا، مصرى مـسلم فى الخمسين من عمره ، متدين ويُصلى معظم الفروض فى المسجد المجاور لمحل الكوافير الذى هو بمثابة “كبير الحلاقين” فيه ، وجهه بالكاد يستوعب عينيه وانفه وفمه حيث علامة الصلاة تحتل جزء كبير من جبهته ، قميصه الملون فى شجار دائم مع “كرشه” مما يؤدى الى طرده خارج بنطلونه الفضفاض.
منذ خمس سنوات او اكثر لا يمس شعر رأسى الا مقصه دون ان يقص افكارى، دائم الترحاب بى وبكل زبائنه فى كل زيارة يقابلنى بابتسامته المعهودة التى تحمل دفء الوطن فى هذا البلد الغريب حتى يلقبونه ب “عُـمدة المصريين “، شخصيته تشابه الفنان حسن حسنى فى فيلم “عوكل” وبتعدد الزيارات وما بين فرحة ونكبة صارت بيننا مودة وصداقة رغم فارق السن ، شبابه يحمل من كل دولة عادة او معلومة حيث تعددت سفرياته وعَملْ لسنوات على ظهر مركب سياحى ، لكن هذه المعلومات لا ترشحه بأن يكون المستشار الثقافى ل ” لدولة فيحان” مثلاً، ولكنها تجعل منه مستشاراً ثقافياً لمعظم زبائنه. رغم تنوع هذه المعلومات فى رأسه لكنه مازال يحتفظ بمعلومة واضحة الا وهى انه مـصرى مـسلم. يعشق الاستماع الى الراديو العربى ويعشق عبد الوهاب وحَبّـــبنى فى سماعه وعلّــمنى كيف يكون الطرب الاصيل. دائماً ما نقتسم الفرحة سوياً في أي أحداث رياضية أو سياسية تمر بها مصر، وبسبب خفة دمه المصرية ومهارته في عمله رشحته لكثير من اصدقائى المسيحيين لا ليكون نائباً عنهم في مجلس النواب ولكن ككوافير حيث صاروا زبائنه فأصدقائه . اكثر ما كنت احترم فيه هو انه مسلم امين فى اداء صلواته.
الحج جمال فيمابعد ثورات بعد ٢٥ يناير و٣٠ يونية ..فى زياراتى الاخيرة له صارت احاديثنا عن احوال مصر المضطربة فى كل المجالات ، لكنه دائما كان يفاجئنى بعبارات تحمل معها خبرات السنين ووجهة نظر لم تعبر من امام افكارى. لم يزر مصر منذ اكثر من ١٠ سنوات لكن مصر تزوره يوميا من خلال زبائنه، متابع بشغف لما يحدث فيها برغم من ان مصر تقــسّى قلبها ولا تسأل عمن فارقوها. عندما رجعت من اخر زيارة لى لمصر سألنى عن محبوبته “هى مصر عاملة ايه؟” حكيت له عن الثورة الثانية والمخلوع والاقباط والتهجيروالسلفيين والاخوان والإعلام وسيناء والكهرباء والتوك توك والمحمول. راوغ كل منا الأخر واختلافنا في أمور معينة ليس فيها فصال، فمضيت ولم احمل منه اجابة شافية مريحة مما زاد ضيقي من الأحداث ومنه شخصياً ولكن ما زلت احمل له الكثير من المحبة والتقدير.
غدا عيد الفطــر.. هذا ماعلمته بالصدفة فتذكرت للتو “الحج جمال” . مؤخرا طبيعة عملى تجعلنى اعبر من امام الكوافير يوميا عدة مرات ففى بعض الاحيان اعتيادنا الاشياء يجعلنا ننساها وننسى وجودها فى حياتنا.مما جعلنى المحه بالصدفة وانا عابر امام الكوافير المكدس بالزبائن المسلمين حيث حَـــلقة العيد، هنا هتف على ذهنى بقايا من تعاليم المسيح ” احبوا اعدائكم باركوا لاعنيكم ” اروح اقوله واقولهم (كل سنة وانتم طيبين) ولا اكبر دماغى، طب لو رد واحد وقال “كل سنة وانتم مش موجوديين” اعمل ايه، هما يستاهلوا التحية ولا ايه؟ كتمت هذه الفكرة واسقطتها عدة مرات لكن فى النهاية ضعفت أمام عِــشرة السنين وطاقة الحب التى أحملها للجميع بداخلة دون إستثناء.
كَــبر التحدى بداخلى ، هل افعل واكون انا الاقوى ولست الاضعف ام “اطنش” ولن اخسر شيئا. فجأة ركنت سيارتى فى مكان يعرضها للمخالفة المرورية ، عطلت عملى ووجدت نفسى داخل الكوافير(رجال وسيدات) وسط مسلمين ومحجبات ومنقبة ، ” كل سنة وانت طيب ياعم جمال وانتم طيبين جميعا “. اشرقت فى وجه عم جمال ابتسامة ازهى من كل مرة تحمل معها طِــيبة مصر، كانت تلك بداية فرحة العيد لهم، وانتقلت الابتسامة والاستغراب لكل وجوه الحاضرين، حيث لم يكن متوقع هذا منى له بعد اخر زيارة اختلفنا فيها، رد الحج جمال التحية بصوتٍ عال فى تباهاٍ ان لديه زبائن اقباط ، وكرر الحاضرين التحية والابتسامة من بعده . انصرفت فى عُجالة لسيارتى وعملى، استغربت جدا من جرأتى المجنونة التى تزورنى من حين لأخر.
مضيت يتملكنى شعور بالانتصار بين مااريد وما يجب ان يكون. فتحت باب سيارتى وفتحت معه باب الجدل مع نفسى ، ماذا فعلت؟ اتهمنى صوت لا اعرفه بالخيانة والجُـبن ، كيف تُـكـرْم من فعلوا ويفعلوا بك وبأخوانك كل ذلك ؟ اهمالك لهم هو اقل رد على ما يفعلوه بكم، اجبت”عندك حق” وكانت تلك اجابة كثير من المسيحيين فى هذا الزمان، وفى هذا بادرنى صوت وديع مازلت اتذكره وسألنى تُــري ماهو الحب الحقيقى؟!
الاختبار الحقيقى للحب ان تحب من يكرهك، تقبل من يرفضك، تذهب بارادتك لمن لا يريد ان يرى وجهك، هؤلاء هم دعاة السلام الحقيقين، لماذا نخدع أنفسنا باننا نمارس الحب فى مجاملة بعض الاصدقاء والاقارب ببعض الهدايا او الكلمات الناعمة الطيبة التى لا تتعدى لساننا ، أنه حب مزيف ليس فيه تحدى.
فلننزع عنا ذلك الطبيب الفاشل الذي فقط يشخص ويدين تخلف وجـهل فكر هذا الدهر وعَمي أفعاله ، دعونا نعالج أنفسنا بالمحبة.
وعلى اية حال … ” كل سنة وانت طيب يا عم جمال”.
– المقال نُشر سابقاً في نوفمبر ٢٠١١، وهذه نسخة مُعدلة.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …