من روائـــــــــــــــــــــــــــع نجــــــــــــــــــــيب محفـــــــــوظ
هو غنى عن التعريف ,, حتى قبل حصوله على نوبل فقد كان أباً للرواية العربية ,, وإذا كان طـــــه حسين عميداً للأدب العربى فإن نجيب محفوظ هو عميد الرواية العربية وفارسها الذى لا يٌبارى . لم تقتصر أعماله على صياغة الرواية فحسب لكنه كتب الكثير من القصص القصيرة والمقالات السياسية والإجتماعية . يسعدنى أن أقدم هذه القصة والتى جاءت ضمن مجموعته ( خمارة القط الأسود ) صدرت عام 1969
توفيق مترى مينا
+++++++++++++++++++++++++
- جنــــــــــــــة الأطــــــــــــفال
********* نجيب محفوظ
- بابا ..
- نعم …
- أنا وصاحبتى نادية دائماً مع بعض ..
- طبعاً ياحبيبتى فهى صاحبتك ……….
- فى الفصل , فى الفسحة , وساعة الأكل
- شىء لطيف وهى جميلة ومؤدبة ……..
- لكن فى درس الدين أدخل أنا فى حجرة وتدخل هى فى حجرة أخرى؟
لحظ الأم فرآها تبتسم رغم إنشغالها بتطريز مفرش فقال وهو يبتسم
- هذا فى درس الدين فقط ..
- لم يابابا؟
- لأنك لك دين وهى لها دين آخر .
- كيف يابابا ؟
- أنت مسلمة وهى مسيحية .
- لم يابابا ؟
- أنت صغيرة وسوف تفهمين فيما بعد .
- أنا كبيرة يابابا .
- بل صغيرة ياحبيبتى ,,
- لم أنا مسلمة ؟
عليه أن يكون واسع الصدر وأن يكون حذراً ولا يكفر بالتربية الحديثة عند أول تجربة .
- بابا مسلم وماما مسلمة فأنت مسلمة .
- ونادية ؟
- باباها مسيحى وامها مسيحية ولذ لك فهى مسيحية .
- هل لأن باباها يلبس نظارة؟
- كلا لا دخل للنظارة فى ذلك, ولكن لأن جدها كان مسيحىاً كذلك ..
وقرر أن يتابع سلسلة الأجداد إلى ما لا نهاية حتى تضجر وتتحول إلى موضوع آخر لكنها سألت :
- من أحسن ؟
وتفكر قليلاً ثم قال :
- المسلمة حسنة والمسيحية حسنة ..
- ضرورى واحدة أحسن ؟
- هذه حسنة وتلك حسنة .
- هل أعمل مسيحية لنبقى معاً دائماً ؟
- كلا ياحبيبتى, هذا غير ممكن, كل واحدة تظل كباباها وماماها ..
- ولكن لم ؟
حق إن التربية الحديثة طاغية ! .. وسألها
- ألا تنتظرين حتى تكبرى ؟
- لا يابابا ..
- حسن , أنت تعرفين الموضة , واحدة تحب موضة وواحدة تفضل موضة لذلك يجب أن تبقى مسلمة ..
- يعنى نادية موضة قديمة ؟
ألله يقطعك إنت ونادية فى يوم واحد . الظاهر أنه يخطىء رغم الحذر . وأنه يٌدفع بلا رحمة إلى عنق زجاجة . وقال
- المسألة مسألة أذواق ولكن يجب أن تبقى كل واحدة كباباها وماماها ..
- هل أقول لها أنها موضة قديمة واننى موضة جديدة ؟ فبادرها :
- كل دين حسن, المسلمة تعبد الله والمسيحية تعبد الله ..
- ولم تعبده هى فى حجرة وأعبده أنا فى حجرة ؟
- هنا يعبد بطريقة وهناك يعبد بطريقة ..
- وما الفرق يابابا ؟
- ستعرفينه فى العام القادم أو الذى يليه , وكفاية أن تعرفى الآن أن المسلمة تعبد الله والمسيحية تعبد الله .
- ومن هو الله يابابا ؟
وأُخذ . وفكر ملياً . ثم سأل مستزيداً من الهدنة :
- ماذا قالت أبلة فى المدرسة ؟
- تقرأ السورة وتعلمنا الصلاة ولكنى لا أعرف . فمن هو الله يابابا ؟
فتفكر وهو يبتسم إبتسامة غامضة وقال :
- هو خالق الدنيا كلها .
- كلها ؟
- كلها .
- معنى خالق يابابا ؟
- يعنى أنه صنع كل شىء .
- كيف يابابا ؟
- بقدرة عظيمة ..
- وأين يعيش ؟
- فى الدنيا كلها ..
- وقبل الدنيا ؟
- فوق ..
- فى السماء ؟
- نعم .
- أريد أن أراه .
- غير ممكن .
- ألم يره أحد ؟
- كلا ..
- وكيف عرفت أنه فوق ؟
- هو كذلك.
- من عرف أنه فوق ؟
- الأنبياء .
- الأنبياء ؟
- نعم .. مثل سيدنا محمد ..
- وكيف يابابا ؟
- بقدرة خاصة به .
- عيناه قويتان ؟
- نعم .
- لم يابابا ؟
- ألله خلقه كذلك .
- لم يابابا ؟
وأجاب وهو يروّض نفاد صبره :
- هو حر يفعل ما يشاء ..
- وكيف رآه ؟
- عظيم جداً , قوى جداً ,قادر على كل شيء ..
- مثلك يابابا ؟
فأجاب وهو يدارى ضحكة :
- لا مثيل له ..
- ولم يعيش فوق ؟
- الأرض لا تسعه ولكنه يرى كل شيء .
وسرحت قليلاً ثم قالت :
- ولكن نادية قالت لى أنه عاش على الأرض .
- لأنه يرى كل مكان فكأنه يعيش فى كل مكان !
- وقالت أن الناس قتلوه ؟
- ولكنه حى لا يموت .
- نادية قالت أنهم قتلوه ..
- كلا ياحبيبتى , ظنوا أنهم قتلوه ولكنه حى لا يموت .
- وجدى حى أيضاً ؟
- جدك مات .
- هل قتله الناس ؟
- كلا مات وحده ..
- كيف ؟
- مرض ثم مات ..
- وأختى ستموت لأنها مريضة ؟
وقطب قائلاً وهو يلحظ حركة إحتجاج آتية من ناحية الأم :
- كلا ستٌشفى إن شاء الله .
- ولم مات جدى ؟
- مرض وهو كبير .
- وأنت مرضت وأنت كبير فلم لم تمت ؟
ونهرتها أمها فنقلت عينيها بينهما فى حيرة , وقال هو :
- نموت إذا أراد الله لنا الموت .
- ولم يٌريد الله أن نموت ؟
- هو حر يفعل ما يشاء .
- والموت حلو ؟
- كلا ياعزيزتى ..
- ولم يريد الله شيئاً غير حلو ؟
- هو حلو مادام الله يريده لنا .
- ولكنك قلت أنه غير حلو .
- أخطأت ياحبيبتى ..
- ولم زعلت ماما لما قلت أنك تموت !
- لأن الله لم يرد ذلك بعد .
- ولم يريده يابابا ؟
- هو يأتى بنا إلى هنا ثم يذهب بنا .
- لم يابابا ؟
- لنعمل أشياء جميلة هنا قبل أن نذهب .
- ولم لا نبقى ؟
- لا تتسع الدنيا للناس إذا بقوا .
- ونترك الأشياء الجميلة ؟
- سنذهب إلى أشياء أجمل منها .
- أين ؟
- فوق .
- عند الله ؟
- نعم .
- ونراه ؟
- نعم .
- وهل هذا حلو ؟
- طبعاً .
- إذن يجب أن نذهب ؟
- ولكننا لم نفعل أشياء جميلة بعد .
- وجدى فعل ؟
- نعم .
- ماذا فعل ؟
- بنى بيتاً وزرع حديقة . .
- وتوتو إبن خالى ماذا فعل ؟
وتجهم وجهه لحظة , واسترق إلى الأم نظرة مشفقة , ثم قال :
- هو أيضاً بنى بيتاً صغيراً قبل أن يذهب ..
- لكن لولو جارنا يضربنى ولا يفعل شيئاً جميلاً .
- ولد شقى .
- ولكنه لن يموت !
- إلا إذا أراد الله ..
- رغم أنه لا يفعل أشياء جميلة ؟
- الكل يموت , فمن يفعل أشياء جميلة يذهب إلى الله ومن يفعل أشياء قبيحة يذهب إلى النار ..
وتنهدت ثم صمتت فشعر بمدى ما حل به من إرهاق . ولم يدر كم أصاب ولا كم أخطأ وحرك تيار الأسئلة علامات إستفهام راسبة فى أعماقه . ولكن الصغيرة ما لبثت أن هتفت :
- أريد أن أبقى دائماً مع نادية .
فنظر إليها مستطلعاً فقالت :
- حتى فى درس الدين !
وضحك ضحكة عالية . وضحكت أمها أيضاً . وقال وهو يتثائب :
- لم أتصور أنه من الممكن مناقشة هذه الأسئلة على ذاك المستوى !
فقالت المرأة :
- ستكبر البنت يوماً فتستطيع أن تدلى لها بما عندك من حقائق !!
والتفت نحوها بحدة ليرى مدى ما ينطوى عليه قولها من صدق أو سخرية فوجد أنها قد انهمكت مرة أخرى فى التطريز .
إنتــــــــــــــــــــــــــــــــــهت